الدولة الیهودیة... وتهافُت أساطیر التأسیس
وکان هذا مدوناً فی المیثاق الوطنی الفلسطینی منذ إنشاء منظمة التحریر الفلسطینیة، دولة علمانیة تعددیة یعیش فیها کل المواطنین على قدم المساواة بصرف النظر عن العرق والدین والطائفة. ولم تعترف به إسرائیل لأنها کانت ترید فی الحقیقة دولة یهودیة خالصة خالیة من العرب أو المسلمین أو النصارى. وکانت الدولة التعددیة العلمانیة مجرد دعایة أمام الغرب بزعم أن أعداءها یریدون إلقاءها فی البحر.
وقبل مؤتمر أنابولیس وضعت إسرائیل شرطاً للاعتراف بالدولة الفلسطینیة التی مازالت فی الأذهان وفی الأقوال، دون الأرض والأفعال، وهو الاعتراف بأنها "دولة یهودیة". وفی خطاب الرئیس الأمیرکی الافتتاحی قال إن إسرائیل دولة قومیة للیهود، وهو ما یتفق مع قرار التقسیم فی 1948، دولتان، واحدة للعرب والثانیة للیهود. والغایة من ذلک الدفاع عن الکیان الصهیونی على الأمد الطویل، والنظر إلى الآجل دون العاجل. ما دامت إسرائیل لم تستطع الحفاظ على توسعها واحتلالها لأراضی دول الجوار إلى ما لا نهایة بعد ازدیاد المقاومة، والإصرار العربی على أنه لا سلام ولا اعتراف إلا بعد الانسحاب من الأراضی المحتلة منذ 1967، وکما قررت ذلک المؤتمرات السابقة فی "مدرید" و"أوسلو"، وکما عبرت عن ذلک بوضوح مبادرة السلام العربیة، الأرض فی مقابل السلام، الانسحاب الکامل فی مقابل التطبیع الکامل. فالانتصار العسکری والتوسع الاستیطانی لهما حدود. لا تستطیع إسرائیل قضم ما لا تستطیع أن تهضم. المقاومة تشتد، والمقاطعة مستمرة، والرفض مازال هو الغالب على الوجدان العربی بصرف النظر عما تفعله أو تریده الحکومات.
وبهذا المطلب الجدید، "الدولة الیهودیة"، ترید إسرائیل تحقیق أربعة أهداف: الأول إخراج عرب 1948 من إسرائیل بعد أن أصبح التزاید السکانی لأکثر من ملیون عربی منذ الاحتلال هماً ثقیلاً على إسرائیل. والتقاریر تفید بأنه مع حلول عام 2050 سیتجاوز عدد العرب فی إسرائیل عدد الإسرائیلیین مهما ازدادت الهجرات. والغربیون، یقول البعض، "أنانیون" لا یحبون التکاثر خوفاً من انخفاض مستوى المعیشة. وإذا ما انضم على الأمد الطویل الیهود العرب إلى إخوانهم، فإن العرب یکونون الأغلبیة فی إسرائیل، وتضیع هویة الدولة وشرعیتها. ویتحول عرب إسرائیل إلى مواطنین من الدرجة الأولى لما کانت لهم الأغلبیة، ولیسوا مواطنین من الدرجة الثانیة کما هو الحال الآن. وفی أحسن الأحوال یتم تبادلهم مع المستوطنین الإسرائیلیین بعد 1967 الذین قاربوا ثلاثة أرباع الملیون، عرب فی إسرائیل فی مقابل إسرائیلیین فی الدولة الفلسطینیة، إن قامت.
والثانی حل مشکلة اللاجئین الفلسطینیین منذ 1948 بالإضافة إلى لاجئی 1967 المقیمین فی المخیمات فی لبنان وسوریا والأردن ومصر، والمنتشرین فی کافة الوطن العربی، بل وفی الخارج فی أوروبا وأمیرکا وفی الشتات فی کل بقاع العالم. ومن ثم یمکن التخلص من تجمعات سکانیة یسهل فیها تجنید شبابها فی المقاومة وممارسة العنف وتفریخ "الإرهاب" بلغة أمیرکا وإسرائیل. و"حماس" فی غزة شاهد على ذلک. و"حزب الله" فی جنوب لبنان شاهد آخر. ولا یحق لهم العودة إلى دولة یهودیة وهم غیر یهود، مسلمین ونصارى. وینتهی الوطن لصالح الدین، وهویة المواطن لصالح الطائفة.
والثالث شرعیة هجرة یهود العالم إلى إسرائیل. الدولة الیهودیة استمراراً من الشتات إلى "العالیا" بحیث یمکنها استیعاب ثمانیة ملایین یهودی خارج إسرائیل إلى الداخل. وبالتالی تصبح إسرائیل أربعة عشر ملیوناً، وهم عدد الیهود فی العالم، بما فیهم یهود أمیرکا عامة ونیویورک خاصة. وهو نوع من الأمن الکمی السکانی وسط المحیط العربی ثلاثمائة وخمسون ملیون عربی وسط ملیار وربع ملیار من المسلمین. فبعد حرب أکتوبر 1973 وحرب لبنان عام 2006 أحسن العرب الکیف، وإدارة الحرب، واستعمال الصواریخ. والحمیة الإسلامیة هی المسیطرة على الشوارع. ومسلمو إندونیسیا وبنجلادش والملایو وأواسط آسیا والصین یتوقون إلى الاستشهاد فی القدس. فالدولة الیهودیة تقابل کماً بکمٍّ، حتى ولو کان فی صالح العرب والمسلمین. یکفیها نصرة الغرب وأمیرکا لها وعداؤهما للعرب والمسلمین.
والرابع إعطاء شرعیة جدیدة للکیان الصهیونی لا تقوم على أساطیر "أرض المعاد" و"شعب الله المختار" المستمدة من قراءة خاصة للتوراة بل على طبیعة الجغرافیا السیاسیة فی المنطقة بعد تجزئتها إلى دولیات طائفیة سُنیة وشیعیة، إسلامیة وقبطیة، أو عرقیة، ترکمانیة وکردیة، عربیة وبربریة وزنجیة. وبالتالی تکون إسرائیل دولة یهودیة تجمع بین العرق والدین مثل باقی شعوب المنطقة.
والعجیب أن تعلن ذلک أمیرکا نفسها وهی التی تضرب بنفسها المثل فی النظام الدیمقراطی التعددی، بوتقة الانصهار التی یتساوى فیها الجمیع. وهی دعایة أخرى نظراً لاضطهاد الأقلیات "السوداء" و"السمراء" وتصدی "الواسب" WASP وهو اختصار للبروتستانت البیض الأنجلوساکسون. ولو أن فلسطین المقاومة أعلنت أنها ستکون دولة إسلامیة لقامت الدنیا ولم تقعد. وتم اتهامها بالأصولیة والعنف والإرهاب. وماذا عن نصارى الشام وهم عرب. هل ینضمون للدولة القومیة العربیة أم یکونون دولة نصرانیة کما فعل غساسنة الشام قبل الإسلام؟ وماذا عن لبنان؟ هل یعلن نفسه دولة عربیة أم مارونیة أم سُنیة أم شیعیة؟ وماذا عن الیمن، هل یعلن نفسه دولة زیدیة أم دولة شافعیة؟ وماذا عن السودان، هل یعلن نفسه دولة عربیة أم زنجیة، إسلامیة أم مسیحیة أو وثنیة؟ وماذا عن دول المغرب العربی، هل تعلن عن نفسها دولاً عربیة أم دولاً بربریة "أمازیغیة"؟
وتعادی أمیرکا النظام فی إیران وتتهمه بالإرهاب، والحکم فی السودان وتحاول فصل الجنوب وکردفان عنه, وتعارض وصول "المحاکم الشرعیة" إلى الحکم فی الصومال وتساعد إثیوبیا على غزوه أو تأیید الحکم العسکری فی باکستان وهی ترفع شعار الدیمقراطیة فی "الشرق الأوسط الکبیر" أو "الجدید" خوفاً من وصول المعارضة فیه إلى الحکم. بل إنها لا ترحب بوصول الإسلامیین المعتدلین أو الإسلام المستنیر إلى الحکم فی ترکیا والمغرب، ممثلاً فی حزبی "العدالة والتنمیة". وترفض دخول ترکیا الاتحاد الأوروبی لأنها ذات ثقافة مغایرة ودین مختلف، فی حین تقبل انضمام الدولة الیهودیة. وتعتبر الإسلام تهدیداً لأمیرکا والغرب خاصة بعد أحداث سبتمبر فی واشنطن ونیویورک.
لا فرق بین "المحافظین الجدد" والصهاینة الجدد. فکلا الفریقین نزعتان أصولیتان تحکمان باسم الاختیار الإلهی، فی حین أن الحرکات الدینیة فی العالم العربی منظمات إرهابیة.
والحقیقة أن "الدولة الیهودیة" ستذهب مثل باقی الدول الثیوقراطیة، لأنه لا توجد یهودیة واحدة بل عدة مذاهب یهودیة، أرثوذکسیة ولیبرالیة وإصلاحیة، شرقیة وغربیة، عربیة وغربیة، سلفیة وعقلانیة. فأی یهودیة ستقوم علیها الشرعیة الجدیدة للکیان الصهیونی ستذهب کما ذهبت أساطیر "المعاد" و"شعب الله المختار"، وستنتهی الدولة العنصریة کما انتهى النظام العنصری فی جنوب أفریقیا، و(بأسهم بینهم شدید).
( المقال للکاتب حسن حنفی )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS