الأسرى الفلسطینیون وسیاسة الباب الدوار
لعل أدق وأحسن وصف ینطبق على ما یسمى ببوادر حسن النیة الإسرائیلیة، فیما یتعلق بالافراجات عن الأسرى الفلسطینیین، هو ما وصفها به القائد مروان البرغوثی، بأنها "نکتة" وفعلاً هی نکتة، حیث توقعنا من خلال التطبیل والتزمیر لأنابولیس بأنه لن یبقى فی المعتقلات والسجون الإسرائیلیة أسیر فلسطینی واحد، کیف لا؟ وهناک من أتحفنا بنظریة القیادة الخلاقة والمبدعة وإنجازات أوسلو، وإنجازات انابولیس ونظریة المسامیر الأربعة.. ولربما صاحب النظریة نفسه، یعرف هو أکثر من غیره أن أوسلو من قبل أنابولیس، لم یجّر على الشعب الفلسطینی إلا المصائب والویلات، حیث عمق من حالة الانقسام والانشقاق فی الساحة الفلسطینیة، والتی لم تقتصر على الأحزاب والقوى السیاسیة، بل طالت المجتمع الفلسطینی بأکمله، وعززت من حالة الجهویة والعشائریة والقبلیة والنهج المیلیشیاتی فی صفوف الشعب الفلسطینی..
وزیادة على ذلک مأسسة الفساد من أعلى هرم ومستوى فی السلطة حتى أصغر موظف فیها، ومسامیر الانجازات الأربعة التی یتحدث عنها صاحبنا الهمام، هی فعلاً "الخوازیق" الأربعة التی سیقعد علیها شعبنا الفلسطینی، والتی لعل أخطرها هو "خازوق" إسقاط وشطب حق العودة، وتهجیر ولجوء آخر لمن صمد ودافع عن أرضه ووجوده فی مناطق عام 1948.
والقیادة المبدعة والخلاقة والتی دائماً تتحدث عن الإنجازات الورقیة، وبنفس شخوصها وأدواتها، هذه الشخوص والأدوات التی تجتر وتستدخل الهزائم على أنها انتصارات، فبدلاً من أن تتهالک على حضور مؤتمر أنابولیس، تحت یافطة وذریعة الممرات الإجباریة، هذا المؤتمر الذی لیس له أجندات ولا جدول أعمال ولا مرجعیات ولا آلیات للتطبیق والتنفیذ، کان الأجدى بها أن تعمل على ترتیب وإعادة اللحمة والوحدة للبیت الداخلی الفلسطینی، وأن تتمترس حول مطلب صغیر جداً، وهو الإصرار على الإفراج عن جمیع الأسرى الفلسطینیین قبل مرحلة أوسلو، وممثلی الشعب المنتخبین والمختطفین والمعتقلین فی السجون الإسرائیلیة من قادة أحزاب وفصائل إلى وزراء وأعضاء برلمان، بدلاً من التهالک على عقد لقاءات للعلاقات العامة والصور التذکاریة، ومن أجل مفاوضات"مارثونیة" عنوانها التفاوض من أجل التفاوض، لن تؤدی إلى إزالة بؤرة استیطانیة واحدة، حیث أن القیادة الإسرائیلیة المتباکیة على السلام، والتی أکثر ما تخدع العرب والفلسطینیین بشعارات وأوهام التنازلات المؤلمة من أجل السلام.
وما أن انتهت حفلة الخطابات والمصافحات فی أنابولیس، حتى سارعت القیادة الإسرائیلیة، للبحث فی الطرق والالیات التی تشرع فیها البؤر الاستیطانیة من خلال خصخصة الاستیطان، بحیث تقدم الحکومة الأموال اللازمة للاستیطان إلى المجالس المحلیة، وتقوم هذه المجالس بتنفیذ المشاریع الاستیطانیة، بل أن حکومة الاحتلال وجهت صفعة قویة لما یسمى بـ"معسکر الاعتدال العربی"، وبلغة ناصر قندیل مدیر مرکز دراسات الشرق دول "الاعتلال" العربی، عندما أعلنت عن استدراج عروض من أجل بناء وإقامة 307 وحدات سکنیة فی منطقة جبل أبو غنیم الواقعة فی القسم الشرقی من مدینة القدس والمحتلة عام 1967..
وبالعودة لموضوعة الأسرى، فإن الشیء المخجل والمحزن هنا، أن السلطة تتحدث عن لجنة إسرائیلیة- فلسطینیة لمعالجة ملف الأسرى، دور الطرف الفلسطینی فیها کشاهد الزور والمشرع للإجراءات والممارسات الإسرائیلیة بحق هؤلاء الأسرى، فأنا لا أفهم لجنة الطرف الإسرائیلی فیها المقرر فی کل شیء، یحدد أسماء الأسرى المنوی الافراج عنهم ومدة محکومیتهم ومناطقهم الجغرافیة وغیرها، فهذه لجنة لیس لها أیة صلاحیات والعملیة إسرائیلیة من ألفها إلى یائها، فحل هذه اللجنة أفضل من بقائها، کما انه فی عهد الحکومة الفلسطینیة الرشیدة الحالیة، وکما ذکر لی الأسرى حسام شاهین وأمجد أبو لطیفة وإبراهیم مشعل وهیثم عبیدات فی رسائلهم، فإنه لأول مرة من عام 1967 یمنع الاحتلال دخول الحلویات للأسرى فی العید، وکذلک یقولون أن أوضاعهم المعیشیة وصلت حداً لا یطاق ویحتمل..
والانکى والأدهى من ذلک أن اعداد الأسرى المفرج عنهم فیما یسمى ببوادر حسن النیة الإسرائیلیة، أقل أو فی أحسن الأحوال مساویة للأعداد التی یجری اعتقالها من قبل الاحتلال وأجهزته الأمنیة فی نفس الفترة.
وأنا بدوری أسأل جهابذة وأصحاب النظریات الجدیدة من الممرات الإجباریة إلى المسامیر الأربعة وغیرها، إذا کان أنابولیس لم ینجح فی حل ملف لیس کل الأسرى الفلسطینیین، حتى لا أتهم بانعدام المعرفة بموضة المصطلحات الجدیدة الواقعیة والعقلانیة، بل الأسرى القدامى والقادة والوزراء والنواب، والذین أتوا بانتخابات دیمقراطیة شهد علیها ما یسمى بحماة ودعاة الدیمقراطیة وحقوق الإنسان فی أمریکیا وأوروبا، فهل سینجح أنابولیس فی حل القضایا الکبرى والتی تشکل مرتکزات البرنامج الوطنی الفلسطینی من اللاجئین، القدس، الحدود والاستیطان؟ أم ان المؤشرات والدلائل تشیر إلى تحقیق ما طرحه القادة الصهیانه بدءاً من شامیر ومروراً ببیرس ونتنیاهو وانتهاءاً ببراک وأولمرت، مفاوضات من أجل المفاوضات، وامن مقابل التطبیع، فالقادة الصهاینة بمجمل ألوان طیفهم السیاسی، یقولون ما المانع من مفاوضات مع الفلسطینیین دون إعطائهم أی شیء، وفی کل جولة مفاوضات أو مؤتمر نعود بهم للمربع الأول، ففی مؤتمر أنابولیس صاحب المسامیر الأربعة، المنجزات المتحققة للشعب الفلسطینی، القادة الإسرائیلیین قالوا علناَ وجهرأ، أنه غیر ملزم لهم بفترات زمنیة محدده.
واستمرار إدارات المعارک مع الاحتلال بهذه العقلیة والذهنیة، سیجعل الأسرى الفلسطینیین تحت رحمة واشتراطات واملاءات وتقسیمات إسرائیل وأجهزتها الأمنیة، أسرى "فتح" وأسرى "حماس"، أسرى سلطة وأسرى معارضة، أسرى ما یسمى بالأیدى الملطخة بالدماء، وأسرى أیدیهم غیر ملطخة بالدماء.. أسرى القدس.. أسرى ثمانیة وأربعین وهکذا دوالیک..!!
ومن هنا فإنه مطلوب من الطرف الفلسطینی المفاوض، أن یرفع بنطاله الساحل کثیراً کحال موضة شباب الیوم قلیلاً، لأنه بدون هذا الرفع، فالتسحیل المجانی المتکرر والمتواصل، به لن یتحرر الأسرى.. وأنا أقصد هنا الأسرى المحکومین أحکاماً عالیة، وقادة الأحزاب والفصائل والوزراء والنواب وأسرى الثمانیة وأربعین والقدس، وسیتحول عدد کبیر من الأسرى من شهداء مع وقف التنفیذ إلى شهداء فعلیین، وستستمر إسرائیل فی انتهاج سیاسة الباب الدوار معهم.. هذه السیاسة التی تحتم على کل الفصائل والقوى، البحث عن طرق وأسالیب تضمن للأسرى تحررهم دون امتهان لکرامتهم، او وصف لنضالاتهم بـ"الإرهاب"، فتجاربنا مع الاحتلال فی هذا الجانب مریرة جدا، وهو متسلح بالعنجهیة والغطرسة، وسیستمر فی استخدام أسرانا کورقة ضغط وابتزاز.
( المقال للکاتب والنقابی الفلسطینی راسم عبیدات فی موقع أمین )
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS