qodsna.ir qodsna.ir

مظاهرة أنابولیس تؤکد التواطؤ الرسمی العربی

مظاهرة أنابولیس تؤکد التواطؤ الرسمی العربی

 

لن نتوقف کثیرا أمام الخلاف الدائر حول توصیف ما جرى فی أنابولیس، هل هو مؤتمر أم اجتماع أم لقاء أم مظاهرة ومهرجان.. فالتسمیات لا تعنی الکثیر أمام الأهداف التی وقفت وراءه، ولنقل أنه مظاهرة، لأن المظاهرة تحرک مؤقت، یغلب علیه الاستعراض أکثر من الفعل الحقیقی.

وأحیانا ما تُطلب المظاهرة لذاتها، من قوى وأطراف تحاول التغطیة على حقائق فرضت نفسها على الأرض، یراد إجهاضها وطمسها، ومنها ما له علاقة بأکثر القضایا العربیة تعقیدا، وهی قضیة الصراع العربی الصهیونی، ومظاهرة أنابولیس مختلفة، فقد کانت استعراضا للضعفاء والمتواطئین، اختلطت فیها الأوراق، وتداخلت فیها الصور، ووصف مظاهرة أنابولیس، بالقرب من العاصمة الأمریکیة واشنطن، بهذا الصفة لیس من قبیل المبالغة، أو تجاهل المشارکین الرئیسیین ، إنما إقرار لنهج فرض نفسه فی السنوات الأخیرة. والأقطاب الثلاثة التی حشدت من أجلها المظاهرة، ذهبوا وهم فی أضعف حالاتهم، فجورج دبلیو بوش غارق إلى أذنیه فی وحل العراق. وشرکاؤه تساقطوا واحدا تلو الآخر، فبعد أثنار الاسبانی، راح بلیر البریطانی، ولحقهما، مؤخرا، هوارد الاسترالی، وإن کان بوش قد کسب حلفاء جددا، مثل میرکل فی ألمانیا، وسارکوزی فی فرنسا، فهؤلاء هم حلفاء المأزق والسقوط، ولیسوا شرکاء المغنم والمصیر. وشتان بین حلیف یرى السقوط وهو یقترب منه، فیسعی لمنعه، وبین شریک رأى العاقبة فحاول التخفیف من وقعها، ولما فشل هرب بجلده. وحلفاء السقوط ذوو أفق محدود، وحس إنسانی متدن، وقدرة على استشراف المستقبل تکاد تکون معدومة. والشریک قد یکون معذورا، بسبب حجم الخداع الذی ساهم فی صنعه وعاشه لحظة بلحظة، بشکل أشعره بالسلامة الکاذبة، أو بسبب قوة عسکریة واقتصادیة متفوقة بعثت فیه غرورا وغطرسة دفعته لارتکاب الحماقات.

وان کان هذا هو وضع الرئیس الأمریکی، فأولمرت لا یقل عنه ضعفا.. یوصف بأنه بطة عرجاء ما زالت تعانی من هزیمة أصابتها فی لبنان. أما محمود عباس (أبو مازن)، فإنه ذهب إلی أنابولیس، بنصف شرعیة، ونصف قرار، ونصف موقف، ونصف سلطة، منقسمة على نفسها، جعلت من شعبها شعبین. أحدهما فی الضفة والثانی فی غزة، التی أسقطها من الحساب، تلبیة للمطالب الصهیو أمریکیة، الرافضة لحماس، الحاصلة على الثقة، عبر صنادیق الاقتراع.

الطرفان الرئیسیان فی أنابولیس هما الولایات المتحدة والدولة الصهیونیة.. یعانیان ضعفا سیاسیا کبیرا، ومع ذلک فإن الإدارة الأمریکیة، رغم ضعفها، لا تتعامل مع دول المنطقة العربیة والشرق الأوسط، علی قواعد المصالح المتبادلة أو العلاقات المتکافئة، وتتعامل بمنطق البلطجی الذی یسعی لفرض ما یرید عنوة لیعید الحیاة إلى قیم استعماریة تقلیدیة، تجاوزها الزمن. یصفی بها حسابات قدیمة، مع عالم کان قد تمرد علی هذه القیم، فیما بعد الحرب العالمیة الثانیة، ومنذ أن عادت هذه القیم إلى الإدارة الأمریکیة أضحت سیاساتها هی الأکثر عداء للعالم، وتقف بالمرصاد ضد تطلعات الشعوب، ومنها الشعب العربی، ومن داخله الشعب الفلسطینی، وتتطابق مع الإدارة الصهیونیة، فی تل أبیب فی عنصریتها، التی تتحکم فی سبل التعامل مع العرب والمسلمین، وترجم بوش هذا المعنی فی تصریح له، فی الیوم الأول للمظاهرة مؤکدا فیه على وحدة ما أسماه بالأمن القومی الأمریکی والأمن القومی للدولة الصهیونیة، والإدارة الصهیونیة، وهی تعیش تداعیات هزیمتها اللبنانیة، تسعی لرد الاعتبار لآلتها العسکریة، واسترداد هیبة جنرالاتها. وکانت الهزیمة قد هزت صورتها، بعد أن تم تنصیبها قوة لا تنازع، أوکلت لها إدارة المنطقة العربیة وإقلیم الشرق الأوسط، وإعادة تشکیلهما على القواعد العشائریة والعرقیة والمذهبیة والطائفیة، لتصبح فسیفساء وشظایا، الجزء الموحد والوحید فیها هو الدولة الصهیونیة، ومن هنا جاءت الحاجة إلى توظیف السلطة الفلسطینیة، بقیادة محمود عباس (أبو مازن)، أمریکیا وصهیونیا، للعب دور الغوایة للعرب والمسلمین، مع أنها سلطة مجردة من القوة والتأثیر، ولا تملک من أمر نفسها شیئا.

وبسبب التطورات التی جعلت من الصراع العربی الصهیونی شأنا صهیونیا بحتا، تتخذ المشارکة الرسمیة العربیة، شکل الأرقام، غیر المؤثرة علی أی فعل، وأضحت أقرب إلى الأصفار، التی لیس لها مطالب، ولا تصبح ذات وزن إلا حین تضاف إلی المجهود السیاسی والاقتصادی والعسکری الصهیو أمریکی، ونستطیع أن نرى ذلک فی هذه اللحظة الحرجة، التی تتهیأ فیها الإدارة الأمریکیة لتوجیه ضربة متوقعة ضد إیران.

 وضعف الإدارتین الأمریکیة والصهیونیة، مع الهزال الشدید لسلطة أبو مازن، کان حافزا لإقامة استعراض یعید حشد الأتباع والحلفاء وذوی الشأن، واستغلالهم فی إنجاز مهمة ملحة، بعد تعریب التطبیع، مع إعلان المبادرة السعودیة سنة 2002، فقد سنحت فرصة استغلال الضعف العربی الشامل، فی نقل التطبیع المعرب من المجال السیاسی النظری، إلى المستوی التطبیقی العملی، وتحویله إلی مضخة لدماء جدیدة فی شرایین المشروع الصهیونی الممتد فی فلسطین وما حولها، بشکل اقتضى تحریک القطیع العربی الرسمی، المکون من سبع عشرة دولة عربیة، نحو أنابولیس، وکان للأردن ومصر الدور الأکبر فی تشکیله، تکفلت مصر بسوریة ولبنان، وتکفلت الأردن بالسعودیة ودول الخلیج ( الفارسی )، وهو ما أوصل المشارکین إلى هذا العدد، وتم لم شمل المتواطئین، استعدادا لمذبحة جدیدة، قد لا تقل فی وحشیتها ودمارها عن المذبحة العراقیة.

وحین یراهن الضعفاء على من هم أضعف منهم، فإن الکل یزداد ضعفا، وهو ما نتوقع أن نراه فی عام 2008، عام الاستعداد للانتخابات الأمریکیة. إذن لم یتعد اللقاء حدود مظاهرة تضامن سلبی، تزکی الحل الصهیونی، وتعتمد العلاقات العامة نهجا یخفف من مأزق الإدارة الأمریکیة الراهن. وهذه المظاهرة لم تکن قاصرة على القطیع العربی الرسمی.. ضمت دولا إسلامیة ولاتینیة، مع الدول الصناعیة الکبرى والصین، و وفرت جامعة الدول العربیة الغطاء اللازم لإضفاء شرعیة جامعة على المشارکة العربیة فیها، ولعبت شخصیة عمرو موسى دورا محوریا فی تهیئة الأجواء للقبول بهذا الدور، فهو، من وجهة نظری، قادر على الغوایة، حتى جعل من جامعته مسجد ضرار ، فی التاریخ الإسلامی، تجلب المضار أکثر مما تجلب المنافع. سهلت التطبیع وکثفت من خطى تعریبه.

هل ننسى سبقها فی الاعتراف بسلطة الاحتلال فی العراق؟ ومنحتها الشرعیة العربیة اللازمة،وذلک حین استقبل وزیر خارجیة سلطة الاحتلال لیشغل مقعد العراق فیها، ومن شارک فی هذه المظاهرة، وجد أن الأمر لم یخرج عن النهج المعتاد ، بفرض الحلول المنفردة، التی أکدتها التصریحات الأولى لوزیرة الخارجیة الأمریکیة، وحذرت فیها المشارکین العرب من التدخل فیما یجری بین الفلسطینیین والصهاینة، و القطیع العربی الرسمی لم یحتل مقاعد المتفرجین فحسب، بل شغل کراسی شهود الزور، فی شأن من المفترض أنه یخصهم. وأصبح الالتزام بفردیة الحلول مقترنا بجماعیة التبعیة، وبقابلیة المشروع الصهیونی، ولم نجد مبررا للقلة غیر التابعة للالتحاق بهذا القطیع . المندمج فی المجهود السیاسی والعسکری والاقتصادی الصهیو أمریکی، الذی اعتمد فی بقائه واستمراره على الغیاب العربی.

 لم تتعد نتائج مهرجان أنابولیس حدود إطلاق المفاوضات، بین حکومة صهیونیة ضعیفة، ونصف سلطة هشة، أعطت الأولویة للصدام مع شعبها أکثر من تصدیها لقوات الاحتلال وقوی الاستیطان. وتستمر المفاوضات هدفا فی حد ذاته، من أجل التسویف والغوایة. وکل ما تحققت فی أنابولیس صب فی مصلحة الاستیطان. فإقرار الإدارة الأمریکیة بیهودیة الدولة الصهیونیة هو إقرار ضمنی بتصفیة الوجود العربی فی فلسطین، وتهجیر ما تبقى من فلسطینیین، یعیشون داخل ما یعرف بالخط الأخضر، بکل ما فی هذا من تناقض مع التقالید والأعراف المرعیة فی بناء الدولة الحدیثة، ذات الطابع المدنی والسیاسی، ومثل هذا التناقض یساعد فی إعادة قراءة السیاسة الأمریکیة تجاه الصراع العربی الصهیونی، وسوف نجدها وهی تخطو خطوة شکلیة إلی الأمام، تتبعها بمئة خطوة عملیة إلی الوراء. من ناحیة أخری بقیت المفاوضات سرابا غیر ذی قیمة، بعد أن استبعد رئیس الوزراء الصهیونی، إیهود أولمرت، التوصل إلی اتفاق خلال عام 2008. فضلا عن غیاب القضایا الصعبة الثلاث. وهی: الحدود واللاجئون، ووضع مدینة القدس.

ونؤکد أن الفضل یعود إلى القطیع العربی الرسمی فیما تحقق من إنجازات لصالح السیطرة الصهیو أمریکیة علی المنطقة، وأخطرها الاعتراف الجماعی بالدولة الصهیونیة، فی أهم مراحل المشروع الصهیونی، وإعلان الحشد العربی الرسمی توجیه جهده العدوانی نحو إیران، ونحو الصراعات الداخلیة والإقلیمیة، ذات الطبیعة المذهبیة والطائفیة والعرقیة، والمخطط لها أن تکون ضمن البرنامج الذی عطلته المقاومة العراقیة، ویرتکز على تفکیک الکیانات السیاسیة فی المنطقة، وکانت الإدارة الأمریکیة قد کشفت، مع مطلع الألفیة المیلادیة الثالثة، عن برنامجها القاضی بتفکیک سبع دول عربیة وإسلامیة تبدأ بالعراق، وتنتهی بالسعودیة ومصر، ولولا المقاومة العراقیة لشق هذا البرنامج طریقه، وما کان قد فشل فی سوریة ولبنان، وما کان متوقعا له أن یؤجل فی إیران والسودان، وتبقی السعودیة ومصر معرضتین لخطر التقسیم، وأنابولیس لیس إلا خطوة فی طریق استئناف تنفیذ هذا البرنامج. ولقاء الضعفاء بالمعنى الذی ذکرناه فی بدایة هذا الموضوع لا یفرز إلا ضعفا، ونعتقد أنه سیستفز عناصر المقاومة، خاصة أنها حققت تقدما ملموسا علی ساحات العراق ولبنان وفلسطین، وحتى لو کان صوت المتواطئین والمهزومین هو الأعلى، إلا أنه لا یعبر عن موازین القوی الداخلیة والإقلیمیة التی توشک أن تمیل فی غیر صالح المشروع الصهیو أمریکی.

( المقال لمحمد عبد الحکم دیاب )

ن/25

 


| رمز الموضوع: 139336