فلسطین فی عین العاصفة الأمریکیة على سوریا
نقولا ناصر
لا مناص من الاعتراف بأن دولة الاحتلال الإسرائیلی قد نجحت فی فرض أولویة أن "إیران هی الخطر الأکبر الذی یقف أمامنا الیوم"، کما قال رئیس وزرائها بنیامین نتنیاهو لوفد زائر من الکونغرس الأمریکی فی السادس عشر من الشهر الجاری، من أجل کسب المزید من الوقت لتهوید ما تبقى من فلسطین، لتصبح هذه الأولویة الآن هی التی تحکم جدول الأعمال الدولی فی الشرق الأوسط بعد أن نجح نتنیاهو فی إملائها عبر البوابة الأمریکیة على المجتمع الدولی الذی تقوده الولایات المتحدة.
وفی هذا الإطار فقط یمکن فهم التطورات التی تضع سوریا الیوم فی عین العاصفة الإقلیمیة، وفهم التراجع المهین لباراک أوباما رئیس القوة الأمریکیة الأعظم فی العالم عن الأولویة التی أعلنها مصحوبة بدعایة صاخبة فی مستهل عهده "لاستئناف عملیة السلام" وتحسین العلاقات مع العرب والمسلمین.
لکن الأهم أنه فی هذا الإطار أیضا یمکن فهم المسعى الذی یقوم به مفاوض منظمة التحریر الفلسطینیة حالیا للاستقواء بالأمم المتحدة من أجل أن یعود "حل الصراع العربی- الإسرائیلی" هو الأولویة التی تتصدر جدول الأعمال الإقلیمی وکذلک الدولی فی المنطقة.
لقد خاطر نتنیاهو بل خاض فعلا مجابهة انتصر فیها على أوباما وإدارته بشأن البند الأول الذی یجب أن یتصدر سلم أولویات الاستراتیجیة الأمریکیة- الإسرائیلیة الإقلیمیة.
ففی مستهل عهده أعطى أوباما أسبقیة للتوصل إلى تسویة سیاسیة متفاوض علیها للصراع الفلسطینی- الإسرائیلی کشرط مسبق للنجاح فی بناء جبهة أمریکیة- إسرائیلیة- عربیة ضد إیران، وأصر نتنیاهو على سلم أولویات معکوس، ونجح فی فرضه على الإدارة الأمریکیة، مما قاد بدوره إلى تهمیش "عملیة السلام" ومفاوضاتها ومفاوضیها وسقوط أی صدقیة باقیة لاستراتیجیتها فی الأوساط الفلسطینیة والعربیة والإسلامیة، ومما یفسر کذلک تصریحات الرئیس محمود عباس بأنه یذهب إلى الأمم المتحدة فی أیلول/ سبتمبر المقبل "مضطرا" کما أبلغ اجتماعا لسفراء فلسطین استضافته اسطنبول أواخر الشهر الماضی لأن "القیادة ما کانت لتلجأ إلى تلک الخطوة لولا اصطدامها" بـ"الحقائق" الناجمة عن فرض سلم أولویات دولة الاحتلال على جدول الأعمال الدولی فی المنطقة ومنها-- کما کتب فی مقال له نشرته صحیفة "الوطن" السعودیة مؤخرا-- "وصول المفاوضات الثنائیة إلى طریق مسدود" و"عجز القوى الدولیة الراعیة لعملیة السلام عن إقناع" دولة الاحتلال بأولویة "السلام" على أولویة الحرب التی تحرض علیها ضد إیران.
ولم یعد سرا الآن أن الحرب التی تحرض علیها دولة الاحتلال الإسرائیلی ضد إیران لم تلق آذانا صاغیة فی واشنطن حتى الآن، لیس لعدم وجود رغبة أمریکیة فیها، فکل الخیارات ما زالت مفتوحة کما تعلن الادارات الأمریکیة المتعاقبة، بل لأسباب عملیة منها الأزمة الاقتصادیة والمالیة التی تطحنها وانشغالها فی الحربین على العراق وأفغانستان اللتین تستنزفانها مالیا وعسکریا استنزافا یجعل من المستحیل علیها فتح جبهة حربیة إیرانیة ثالثة یدرک الاستراتیجیون الأمریکیون استحالة حصرها ضمن الحدود الإقلیمیة لإیران کما هو الحال فی العراق وأفغانستان ناهیک عن الفارق، على سبیل المثال، بین حرب ضد قوة عسکریة بدائیة کطالبان معزولة دولیا وبین خوض حرب ضد آلة حرب إیرانیة تقف على مشارف السلاح النووی ولها علاقات إقلیمیة ودولیة تفتقد طالبان حدا أدنى منها.
ولیس سرا أیضا حقیقة أن دولة الاحتلال الإسرائیلی أقل تأهیلا من الولایات المتحدة لشن حرب کهذه منفردة ضد إیران، لکن لم یعد سرا کذلک أن استمرارها فی التلویح بـ"ضربة إسرائیلیة" ضد البرنامج النووی الإیرانی على نمط الهجوم على مفاعل تموز العراقی فی القرن العشرین الماضی أو على نمط مهاجمة منشأة نوویة سوریة مزعومة قبل أربع سنوات قد تحول إلى عملیة ابتزاز إسرائیلیة متواصلة للحصول على المزید من "الترضیات" المالیة والعسکریة والسیاسیة الأمریکیة مقابل الامتناع عن شن ضربة کهذه، بالرغم من أن الأمریکیین یدرکون بأن تکرار التجربة الإسرائیلیة فی العراق وسوریا ضد إیران لن یعنی بالضرورة رد فعل إیرانیا "صامتا" مماثلا ینتظر توقیتا أفضل للثأر والانتقام، بل إنه ینطوی على مخاطر رد فعل إیرانی فوری أوسع لا تتردد طهران فی إعلان تهدیدها به، ولهذا السبب توالت زیارات کبار المسؤولین الأمریکیین العسکریین والسیاسیین، نزولا من وزیر الدفاع ومدراء الوکالات الاستخباریة، إلى دولة الاحتلال وهم محملون دائما بـ"الحوافز" و"الضمانات" لمنعها من توریط الولایات المتحدة فی أی مغامرة عسکریة یعرفون أن دولة الاحتلال تدرک عواقبها الإیرانیة تماما بقدر ما یدرکون هم أنفسهم أن دولة الاحتلال إنما تستهدف الاستمرار فی ابتزاز بلادهم باستمرار التلویح بمثل هذه "الضربة".
وقد کان رضوخ الولایات المتحدة لسلم الأولویات الإسرائیلی ضد إیران على حساب "عملیة السلام" هو التنازل الأمریکی الأهم حتى الآن فی عملیة الابتزاز الإسرائیلیة المتواصلة هذه.
وکان البدیل الأمریکی للحرب المستحیلة فی الظروف الراهنة على إیران ولأی ضربة تنطوی على خطر تفجیر حرب کهذه تنتظر دولة الاحتلال الإسرائیلی فرصة سانحة لتوجیهها هو استراتیجیة قصقصة ما یعتبرونه أجنحة عربیة لها، وکان فک الشراکة السوریة الإیرانیة فی محور هذه الاستراتیجیة، معتبرین الحلقة السوریة هی الأضعف فی هذه الشراکة.
ولأن سوریة قوة إقلیمیة بدأوا بمحاولة حصر النفوذ العسکری السوری داخل حدوده الوطنیة باخراج القوات السوریة من لبنان أولا، ثم ثانیا بفک الشراکة السوریة مع المقاومتین اللبنانیة والفلسطینیة بمحاولة تصفیة هذه المقاومة بالقوة المسلحة والحرب العدوانیة السافرة والشاملة على لبنان عام 2006 ثم على قطاع غزة بعد عامین. وقد وجدت هذه الاستراتیجیة فی دخول العامل الترکی بقوة فی المعادلة الاقلیمیة فرصة سانحة لاحتواء سوریا ضمن منظومة إقلیمیة تستظل بالاستراتیجیة الأمریکیة العامة عن طریق توفیر ظهیر ترکی لسوریا فی الظاهر کانوا یریدونه بدیلا لشریکها الاستراتیجی الإیرانی.
ودون أی انتقاص من مشروعیة المطالب الشعبیة السوریة بالإصلاح والتغییر، فإن مطالبة الرئیس الأمریکی والاتحاد الأوروبی یوم الخمیس الماضی بـ"تنحی" الرئیس السوری بشار الأسد وتوسیع العقوبات الأمریکیة- الأوروبیة لتشمل سوریا کدولة وحکومة وشعبا بعد أن اقتصرت فی البدایة على "رموز" فی القیادة السوریة إنما هو إعلان مدو بفشل هذه الاستراتیجیة فی تحقیق أهدافها، یؤکد بأنها کانت مجرد "حسابات استراتیجیة سیئة منذ الیوم الأول.. کانت سوریا فی قلبها" کما قال المدیر الأسبق للشرق الأوسط فی مجلس الأمن القومی الأمریکی، مایکل دوران، على ذمة الجروزالم بوست یوم الثلاثاء الماضی، بقدر ما هو إعلان مدو کذلک عن انتقال هذه الاستراتیجیة إلى حرب أمریکیة- إسرائیلیة مفتوحة تضع فلسطین فی عین العاصفة الأمریکیة- الإسرائیلیة على الشراکة السوریة- الإیرانیة..
وهی حرب أعلنت وزیرة الخارجیة الأمریکیة هیلاری کلینتون صراحة، یوم الأربعاء الماضی، أنها ترید توریط العربیة السعودیة وترکیا فی منح ضوء أخضر عربی وإقلیمی لها کی تنتقل إلى مستوى التدخل العسکری المباشر فی أیة لحظة وبأیة ذریعة، فی تکرار لسیناریو التدخل العسکری الأجنبی فی لیبیا، وهو أمر إن حدث سیعنی أن دولة الاحتلال الإسرائیلی قد نجحت أیضا فی فرض سلم أولویاتها على جدول الأعمال العربی کذلک، ویعنی أیضا أن دولة الاحتلال وراعیها الأمریکی لم یبق أمامهما سوى الخیار العسکری ضد سوریا لمنع مفاوض منظمة التحریر من إعادة ترتیب سلم الأولویات الإقلیمی عبر الأمم المتحدة لوضع القضیة الفلسطینیة کبند أول على جدول الأعمال الدولی فی الشرق الأوسط.
وفی هذا السیاق لوجهة الأحداث یصبح متوقعا أن تلجأ دولة الاحتلال الإسرائیلی إلى التصعید العسکری ضد المقاومتین اللبنانیة والفلسطینیة.
وإذا قدر للحلیفین الأمریکی والإسرائیلی الانتصار فی هذه الحرب فإن الطریق سیکون ممهدا أمامهما لفرض الاستسلام لشروطهما على مفاوض منظمة التحریر فی أی "عملیة سلام" یجری استئنافها بعد ذلک.
ن/25
صفحات اجتماعی
اینستاگرام تلگرام توییتر آر اس اس