حمایة عربیة للجرائم الإسرائیلیة
حمایة عربیة للجرائم الإسرائیلیة!
قبل سبعة أعوام، کانت هناک بادرة قانونیة دولیة جریئة، حین قضت محکمة بلجیکیة بقبولها النظر فی قضیة مرفوعة ضد رئیس وزراء إسرائیل آنذاک، آرییل شارون، بتهمة ارتکاب «جرائم حرب» إبان الغزو الإسرائیلی للبنان عام 1982.
وبغض النظر عما آلت إلیه الأمور لاحقاً، اذ أن تلک البادرة ما لبثت أن تلاشت، بعد أن رضخت الحکومة البلجیکیة للضغوط الغربیة والإسرائیلیة، إلا أن مجرد قبول محکمة أوروبیة النظر فی تلک الدعوى - التی تعد من أخطر التهم القانونیة الدولیة فی عالم الیوم - یعد إنجازاً قانونیاً مهیباً، کونها سابقة قانونیة فی عالم الغرب.
وعلى رغم أن هناک تواطؤاً غربیاً من نوع ما ضد فکرة محاسبة مجرمیهم، إلا أنه بین الفترة والأخرى تشهد دهالیز القضاء الغربی ملاحقات قضائیة دولیة لکبار مجرمی الحرب منهم، فی ظاهرة یجب أن تستثمر إعلامیاً وقانونیاً وسیاسیاً من الأمة العربیة والمسلمة، إذ هو أضعف الإیمان لمن لا یملک قوة عسکریة أو سیاسیة أو اقتصادیة، فی عالم الیوم الذی تفوق فیه «قانون القوة» على «قوة القانون».
الیوم، تشهد أروقة المحاکم الإسبانیة سابقة مماثلة، تتمثل فی قبول محکمة إسبانیة النظر فی دعوى أقامها المرکز الفلسطینی لحقوق الإنسان ضد عدد من الشخصیات الإسرائیلیة الرفیعة، بتهمة ارتکاب جرائم حرب، نتیجةً لتورطها فی إصدار أوامر قصف ضد ناشط فلسطینی، أسفر عن مقتل وجرح العشرات من الأبریاء فی غارة إسرائیلیة عام 2002.
إذ شملت الغارة الإسرائیلیة قتل مدنیین من بینهم نساء وأطفال باعترافات إسرائیلیة وثّقتها المنظمة الحقوقیة التی رفعت الدعوى - إذ یعد ذلک مخالفاً لقواعد الحرب المعمول بها فی القانون الدولی ومخالفاً لاتفاق جنیف الرابع لعام 1949 - فقد أصدرت المحکمة الوطنیة الإسبانیة أوامرها بالقبض على سبعة متهمین إسرائیلیین، منهم وزیر دفاع سابق وجنرالات فی الجیش الإسرائیلی، إضافة إلى رئیس الاستخبارات الإسرائیلی السابق، لتورطهم المباشر فی تلک الغارة.
وبغض النظر عن النتیجة التی قد تؤول إلیها هذه القضیة، فإن السؤال المنطقی الذی یخطر فی بال أی قانونی هو: إذا کانت المحاکم الأوروبیة تقبل النظر فی دعاوى ضد مجرمی الحرب الإسرائیلیین، فلماذا لا تقبل محاکم الدول العربیة التی تربطها بإسرائیل علاقات رسمیة النظر فی قضایا مماثلة؟ ألیس الأولى بالحکومات العربیة - المتضررة بطریقة مباشرة من الجرائم الإسرائیلیة - أن تکون هی، ولیس غیرها، من یحاکم هؤلاء المجرمین؟
هل من المعقول أو المقبول، أن تفرش حکومات عربیة البساط الأحمر لمن تعتبرهم المنظمات الحقوقیة الدولیة مجرمی حرب، ویستقبلون استقبال الأبطال من حکومات عربیة، فی حین تطالب دول أوروبیة بإلقاء القبض علیهم، کونهم مجرمین دولیین؟!
واقع الأمر الذی یبدو للمتأمل القانونی فی المواقف العربیة التی تتخذها حکومات تربطها علاقات رسمیة بإسرائیل، أن هناک تآمراً من نوع ما، لعدم ملاحقة المجرمین الإسرائیلیین داخل محاکم هذه الدول، ربما لعلم هذه الحکومات بأنه لو فتح الباب لمحاکمة المجرمین الإسرائیلیین لما تبقى مسؤول إسرائیلی واحد لا تطاوله محاکمة جنائیة، بسبب کثرة المجازر الوحشیة التی یتنافس علیها المسؤولون الإسرائیلیون، والتی تشمل على سبیل المثال لا الحصر: مجزرة دیر یاسین، ومجزرة خان یونس، ومجزرتی قانا الأولى والثانیة ومجازر صبرا وشاتیلا، ومجزرة بیت حانون، ومجزرة شاطئ غزة، والمجازر العدیدة المترتبة على حرب لبنان صیف 2006، وغیر ذلک من المجازر الإسرائیلیة التی یصعب حصرها.
ولعل هذا الإحجام العربی عن اتخاذ الخطوات القضائیة المطلوبة حیال المجرمین الإسرائیلیین، هو ما حدا بإسرائیل أن تتبجح بجرائمها الدولیة من دون حیاء من أحد. فقبل أکثر من عام قامت القناة الأولى الإسرائیلیة ببث فیلم وثائقی تضمن اعترافات لمسؤولین إسرائیلیین بقتل مئات الأسرى من المصریین إبان حرب 1967. وعلى رغم أن الاعترافات الرسمیة التی احتواها الفیلم الوثائقی عن لسان مسؤولین فی الجیش الإسرائیلی، تبعها تأکید من الوزیر الإسرائیلی بنیامین بن الیعازر - وهو أحد المطلوبین فی قرار المحکمة الإسبانیة الأخیر - الذی أقرّ فی الفیلم الوثائقی بأن وحدته المسماة «شکید» قتلت بالفعل 250 أسیراً فی حرب الأیام الستة عام 1967، إلا إن إجراءً قضائیاً واحداً لم یتخذ داخل المحاکم المصریة، بل لعله من المضحک أن رد الفعل الرسمی لم یبلغ حتى درجة الشجب والاستنکار!
وغنی عن القول ان حمایة الأسرى مسؤولیة قانونیة دولیة التزمت بها إسرائیل بموجب المعاهدات الدولیة، إذ إن قتل الأسرى الیوم جریمة دولیة کبرى، کما أشارت إلى ذلک المادة 130 من اتفاق جنیف الثالث 1949 الذی ینص على أن جریمة القتل العمد لأسرى الحرب تدخل تحت «المخالفات الجسیمة» لذلک الاتفاق، وکما بینت المادة 129 من الاتفاق نفسه التزام الدول المتعاقدة بـ «ملاحقة المتهمین باقتراف مثل هذه المخالفات الجسیمة» وملاحقة کل من أمر باقترافها، وبتقدیمهم إلى المحاکمة.
المثیر للسخریة هو أنه وبعد أن أثار الفیلم الوثائقی الإسرائیلی ردّ فعل عنیفاً فی الأوساط الإعلامیة المصریة، تغیرت الروایة الإسرائیلیة الرسمیة، إذ أنکر الوزیر الإسرائیلی بن الیعازر قتل أسرى مصریین، وزعم أن الأسرى المقتولین کانوا فلسطینیین ولیسوا مصریین، ربما لتوقعه أن حکومة الرئیس محمود عباس لن تتابع القضیة!
بید أن جریمة قتل الأسرى المصریین المشار إلیها فی الفیلم الوثائقی، أصبحت الیوم حقیقة کاملة، شهد علیها المؤرخ الإسرائیلی آرییه إسحاقی الأستاذ فی جامعة بار إیلان، الذی قام بإجراء بحث علمی توصل فیه إلى أن الجنود الإسرائیلیین قاموا بالإجهاز على قرابة 900 أسیر مصری بعد استسلامهم فی حرب عام 1967. وسواء کان الأسرى المقتولون من المصریین کما جاء فی الفیلم، أم کانوا من الفلسطینیین کما زعم الوزیر الإسرائیلی، فإن عدم اکتراث الحکومات المعنیة بدماء وأرواح الأسرى الذین افتدوا بلادهم بأرواحهم أمر مثیر للاشمئزاز.
دلیل آخر على التآمر السیاسی والتواطؤ القانونی، هو ما قام به القضاء المصری من أمر بحفظ قضیة قانونیة مرفوعة أمامه قبل ستة أعوام، ضد رئیس وزراء إسرائیل السابق شارون، بسبب «عدم توافر الأدلة»! ولست أدری أی قاض له أن یتردد فی النظر فی جرائم شارون!
خاتمة القول إنه قد یکون من الصعب على المواطن العربی أن یفهم إعراض الحکومات العربیة المتورطة بعلاقات رسمیة مع إسرائیل عن اتهام المجرمین الإسرائیلیین، سوى أنه نوع من التواطؤ القانونی، الذی ربما یکون سببه تجنب غضبة أمیرکیة.
ولکن إذا کان الأمر کذلک، فإنه ربما جاز التذکیر بأنه بالأخذ بالمعیار الأمیرکی ذاته، فإن الحکومات العربیة التی تسکت على جرائم الحکومة الإسرائیلیة، فإنها تعینها على ذلک، وکما قال «الحکیم بوش» ذات یوم: «إن من یعین الإرهابی فهو إرهابی»!
( بقلم محمود المبارک )
م/ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS