أوسلو، السلطة، المفاوضات، استحقاق أیلول وإلا فمسار آخر!
ماجد عزام
ما زال استحقاق أیلول یستحوذ على الاهتمام الفلسطینی؛ غیر أننی أعتقد أن هذا الاهتمام ناقص وغیر مکتمل، کون ما یجری فلسطینیاً هو شکل من أشکال التعبئة والسجال السیاسی العالی النبرة، بعیداً عن النقاش الهادئ والرصین والمؤسساتی على المستوى الفصائلی والحزبی کما على المستوى الوطنی العام.
لا بدّ من التأکید على أنّ أیاً من المؤسسات الحزبیة أو الوطنیة لم تقم بدرس استحقاق أیلول من کافة جوانبه وتفاصیله وتداعیاته وآثاره فی سیاق ما یوصف بـ"صباح الیوم التالی"، أو حتى الخطة "ب"؛ فعلى مستوى "فتح" مثلاً، لم یجر نقاش ممنهج داخل اللجنة المرکزیة المنتخبة المفترض أنها تمثل الجمهور الفتحاوی بکافة آرائه وقناعاته، وتمّ التنکیل، فی الحقیقة، بکل من تجرّأ على معارضة الاستحقاق، کما الأداء السیاسی للرئیس محمود عباس، بشکل عام.
ورغم أن السبب الحقیقی للتنکیل بمحمد دحلان القیادی البارز، وصاحب الشعبیة الجارفة فی غزة، تمظهر فی خلفیة شخصیة عنوانها المسّ بالذات الرئاسیة، إلا أن الهدف کان سیاسیاً بامتیاز وهو وأد أیّ معارضة للرئیس القائد داخل "فتح"، ومنع إجراء نقاش لا فیما یتعلق باستحقاق أیلول، ولا حتى بالمصالحة الوطنیة التی توقفت نتیجة إصرار الرئیس على شخص سلام فیاض کرئیس لحکومة الوحدة الوطنیة، رغم المزاج الفتحاوی المعارض، لیس فقط على صعید اللجنة المرکزیة وإنما أیضاً على صعید برلمان الحرکة -المجلس الثوری- الذی رفع أکثر من توصیة للرئیس بضرورة إقالة فیاض وتکلیف شخص آخر غیره برئاسة الحکومة.
على المستوى الوطنی أیضاً نرى شیئاً مماثلاً؛ فلم یجر نقاش معمّق ومسؤول داخل منظمة التحریر على علّاتها، وجرى الهرب بشکل منهجی ومتواصل من ذلک، عبر عقد اجتماعات لما توصف بـ"القیادة الفلسطینیة" التی تضمّ اللجنة المرکزیة لـ"فتح" واللجنة التنفیذیة للمنظمة وشخصیات مستقلة، ویتحوّل الأمر إلى ما یشبه المهرجان وساحة للخطابة، بعیداً عن عرض وجهات النظر المختلفة وحتى الذهاب إلى التصویت إذا لزم الأمر.
وضع "حماس" لیس أفضل حالاً، فی الحقیقة، فالخلافات المستحکمة بین محمود الزهار الذی یعتبر نفسه القائد الحقیقی للحرکة وبین قیادات الخارج- قد یرسلهم الربیع العربی إلى خریفهم السیاسی- تحول دون إجراء نقاش جدی شفاف ودیمقراطی لاستحقاق أیلول، کما لملفات أخرى منها المصالحة وبلورة فهم أو استنتاج مشترک للربیع العربی وآثاره الفلسطینیة. وعوضاً عن ذلک، فإن المواقف المتخبّطة والمتناقضة وحتى الهشّة الصادرة عن الحرکة تؤکّد المعطى السابق: "حماس" لا تملک موقفاً موحداً منسجماً ومتماسکاً تجاه الاستحقاق، کما تجاه ملفات حسّاسة وشائکة أخرى.
لیس فقط الافتقاد إلى المؤسسات والعمل المنهجی المنظّم، کما الخلافات الشخصیة المستحکمة داخل "فتح" و"حماس" حالا دون التعاطی کما ینبغی مع الاستحقاق، وإنما ثمّة أبعاد سیاسیة تتعلق بالهروب من دلالاته وتبعاته ؛ فاستحقاق أیلول یعنی فی أحد أبعاده رفض التوقف والإصرار على البقاء، بل والمضی قدماً فی نفس المسار، مسار أوسلو، السلطة، المفاوضات. وبعد جمود هذه الأخیرة، ووصولها إلى طریق مسدود، بل موتها إکلینیکیاً لم یجر التوقف واستخلاص العِبَر والاستنتاجات الشخصیة والسیاسیة، وإنما جرى الهرب إلى الأمام وتصویر الاستحقاق وکأنه غیر متناقض مع المفاوضات، رغم أن الرئیس نفسه وضعه ضمن الخیارات أو البدائل لفشل المفاوضات، وهی ذاتها التی وصفها القیادی الفتحاوی ناصر القدوة بأنها خیارات أو بدائل تجریبیة، حیث لا یجوز التجریب. وهذا الموقف أدّى عملیاً إلى تهمیشه، وحتى إلى السعی لإزاحته من المشهد الفتحاوی والوطنی، بشکل عام.
"حماس"، من جهتها، فهمت مغزى أیلول وتموضعه أو مکانه ضمن مسار أوسلو، السلطة، المفاوضات. وأعتقد أن هذا وقف جزئیاً خلف التناقض والتخبّط فی مواقفها، فهی لا یمکنها رفض الاستحقاق والبقاء ضمن نفس المسار، وهی تبدو غیر مستعدّة عملیاً لمغادرته فی ظلّ تمسّکها بحکومتها "الشرعیة". علماً أن التهدئة فی غزة تمثل تعبیراً ساطعاً عن مأزق "حماس"، ورغبتها المتناقضة فی البقاء ضمن المسار ومغادرته فی نفس الوقت.
بناءً على المعطیات السابقة، والواقع الفلسطینی المعقّد والمأزوم، یمکن اعتبار استحقاق أیلول خیاراً معقولاً ولا بأس به، یحمل فی طیّاته تحدیات وفرصاً أیضاً، ما یقتضی أن یتمّ التعاطی معه کما ینبغی سیاسیاً ووطنیاً وجعله وسیلة للقطع مع النهج حتى مع البقاء ضمن نفس المسار، بمعنى استثماره لإعادة الملف الفلسطینی إلى الأمم المتحدة وکسر الرعایة الحصریة الأمریکیة لعملیة التسویة، وعدم إنکار حقیقة أن الاستحقاق نفسه یمثل إعلاناً رسمیاً عن موت المفاوضات وعملیة التسویة ولیس وسیلة أو طریقاً التفافیاً للعودة إلیها من جدید.
ولکی نصل إلى هذه الأهداف، لا بدّ من خوض حوار وطنی جدّی وبالمعنى الحقیقی للکلمة، لیس فقط حول الاستحقاق، دلالاته وتبعاته ومآلاته أو آفاقه، وإنما حول "صباح الیوم التالی"، والاستعداد -ولو نظریاً- لمسار بدیل قد یتضمّن وضع المفاتیح على الطاولة -حسب تعبیر الرئیس عباس- کما الهموم الوطنیة الأخرى کالمصالحة وإعادة بناء منظمة التحریر والمؤسسات الوطنیة الأخرى.
وهذه السیرورة تقتضی بالضرورة الذهاب نحو انتخابات، بل وعملیة دیمقراطیة شاملة متعدّدة المستویات والأبعاد والأهداف ترمی إلى تکریس حقیقة أن الشعب هو مصدر السلطات وصاحب الکلمة الفصل فی الخلافات والتباینات السیاسیة والتنظیمیة.
أجواء الربیع العربی تشجّع حتماً على ذلک، کما حصریة الرعایة المصریة- کما قال خلیل الحیة- للحوار والملف الفلسطینی بشکل عام. علماً أن مصر الدیمقراطیة التعدّدیة والمؤسساتیة ستترک آثارها وبصمتها لیس فقط على الوضع الفلسطینی، وإنما على الوضع العربی برمّته.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS