الجمعه 11 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

إسرائیل.. نحو العزلة السیاسیة

مؤمن بسیسو 

 

 

إسرائیل ترجع القهقرى وتنکفئ إستراتیجیا إلى الخلف وتعیش نوعا من عزلة الماضی. هذه أبرز خلاصة یمکن بلوغها عقب موجة الاستهداف المرکز للسیاسة الإسرائیلیة العنصریة التی انطلقت من ترکیا، مرورا بقاهرة المعز التی شهدت أحداث اقتحام السفارة الإسرائیلیة مؤخرا، وصولا إلى توجه السلطة الفلسطینیة إلى الأمم المتحدة بطلب تحصیل عضویة کاملة للدولة الفلسطینیة المنشودة.

لأول مرة منذ عقود تشعر إسرائیل بطعم العزلة السیاسیة، فترکیا التی تشکل القوة الإقلیمیة الأهم إسرائیلیا انقلبت تماما على واقع التعاون والانفتاح الذی وَسَم العلاقات البینیة بین الطرفین طیلة الأعوام الماضیة، فیما أسقطت الجماهیر المصریة الغاضبة ورقة إسرائیل عملیا عن الرقعة المصریة التی شکل نظامها السیاسی دهرا معقد حلفها الإستراتیجی، وإن کانت ورقتها لا زالت قائمة سیاسیا بحکم المعاهدات السیاسیة المفروضة، فی ذات الوقت الذی لا تخفی فیه السلطة الفلسطینیة -التی أُنشئت بقرار دولی لحمایة الأمن الإسرائیلی- موقفها المعلن الرامی إلى عزل السیاسة الإسرائیلیة فی إطار توجهها إلى الأمم المتحدة لنیل الاعتراف الأممی بالدولة الفلسطینیة.

یقولون إن الألم الناجم عن ضربتین فی الرأس لا یحتمل، وهکذا حال إسرائیل التی تلقت ضربتین قاسیتین بنکهة ترکیة ومصریة خلال أیام، ترکتاها فی حال من الترنّح والاضطراب السیاسی والدبلوماسی لا تخفى على أحد، وها هی تستعد لتلقی ضربة ثالثة بنکهة فلسطینیة خلال الأیام القادمة.

فی ترکیا تسیر الأمور نحو القطیعة الکاملة، رسمیا وشعبیا، مع إسرائیل التی تعلن جهارا رفضها الاعتذار والتعویض لقاء جریمتها بحق سفینة "مرمرة" إبان إبحار أسطول الحریة نحو شواطئ غزة نهایة شهر مایو/أیار من العام الماضی.

وفی مصر أجبرت القوة الشعبیة العارمة الدبلوماسیة المهترئة على الانزواء، وألقت بالسفیر الإسرائیلی إلى ما وراء الحدود، وفرضت معادلة شعبیة جدیدة على النظام المصری المؤقت الحالی الذی یعیش بعقلیة وآلیات النظام السابق، ورسمت ملامح أولیة لمآلات العلاقة المصریة الإسرائیلیة وانحدارها المتواصل فی المرحلة المقبلة.

وفی فلسطین المحتلة، وبغض النظر عن حقیقة الدوافع والبواعث، تعیش إسرائیل هاجس الفشل فی مواجهة خطوة السلطة بالتوجه إلى الأمم المتحدة، وتخشى عزلة متفاقمة لموقفها السیاسی الضعیف، المدعوم بصراحة أمیرکیا، وعلى استحیاء أوروبیا، الذی یجابهه موقف فلسطینی رسمی مدعوم بقرابة ثلثی أعضاء الدول المنضویة تحت إطار الأمم المتحدة.

الموقف الترکی بلغ الیوم حدّ طرد السفیر وتخفیض العلاقات الدبلوماسیة إلى حدها الأدنى وتعلیق الاتفاقیات العسکریة والاقتصادیة، ومن المتوقع أن یتطور إلى أبعد من ذلک ما لم ترعوِ إسرائیل وترضخ للصلابة الترکیة، وهو أمر دونه العجرفة المعهودة والاستکبار التقلیدی الذی یدمغ عقلیة وسلوکیات الاحتلال.

لا نخشى على الموقف الترکی، فالدولة الترکیة موحدة، نظاما وشعبا، فی وجه إسرائیل وسیاستها العنصریة وممارساتها العدوانیة، لکن الخشیة أوضح ما تکون فی موقف المجلس العسکری الحاکم لمصر الذی یستنسخ سیاسات نظام مبارک البائد، ویحاول معاندة الإرادة الشعبیة التی تأبى الرضوخ لعجرفة الاحتلال والتعایش مع منطق استمرار العلاقات السیاسیة والدبلوماسیة معه إلى الأبد، تساوقا مع حسابات سیاسیة غیر مفهومة فی عهد الثورة والتغییر.

یحاول المجلس العسکری المصری فرض إرادته وحساباته على الواقع المصری حالیا، لکنه یواجه قوة الإرادة الشعبیة التی أطاحت ثورتها البیضاء بأکبر رموز التعفن والاستبداد السیاسی فی المنطقة العربیة، ولن یمضی وقت طویل حتى تسقط سیاسته الراهنة لصالح الموقف الشعبی الذی ینطلق من أصالة الأمة وکرامتها ومبادئها العلیا.

لن تبقى الأمور فی مصر على شاکلتها الراهنة، فالحکومة برئاسة عصام شرف تحاول الفکاک قدر الاستطاعة من سیطرة المجلس العسکری الحاکم، والمجلس العسکری لا زال أسیرا لسیاسات حقبة مبارک الغابرة ویحاول إبقاء الأمور على ما هی علیه دون أی تغییر، فیما الحراک الشعبی یتأجج بتسارع کبیر ویشکل أداة ضغط کبرى على النظام السیاسی ودوائر صنع القرار فیه.

وعلى ما یبدو فإن الاتجاه الترکی نحو تعزیز العلاقات الرسمیة مع مصر، وزیارة أردوغان الأخیرة للقاهرة، من شأنه أن یأخذ بالموقف المصری الرسمی، تدریجیا، بعیدا عن الموقف الإسرائیلی وحسابات السیاسة المرتهنة للإرادة الإقلیمیة والدولیة، وینتقل بمشهد العلاقات مع إسرائیل من مربع السلبیة القائمة على المجاملة وإدارة العلاقات فی إطار البرود السیاسی المحکوم بمعاهدة "کامب دیفید" إلى مربع التدافع السیاسی ومواجهة المواقف والسیاسات الإسرائیلیة فی إطار الکرامة الوطنیة والقومیة.

ولعل حدیث رئیس الوزراء المصری مؤخرا عن إمکانیة فتح معاهدة "کامب دیفید" للتعدیل والتغییر کونها غیر مقدسة مصریا، یشکل إحدى تجلیات اتجاهات الموقف المصری الرسمی المتبلور فی الاتجاه المعاکس، ولو تدریجیا، للموقف الإسرائیلی، ومؤشرا بارزا إلى ملامح العلاقة الإسرائیلیة المصریة فی المرحلة المقبلة فی ظل استمرار العجرفة الإسرائیلیة.

رهاننا الیوم على الموقف الشعبی المصری الذی أسقط العلم الإسرائیلی عن مقر السفارة الإسرائیلیة، واضطر السفیر للهرب والمغادرة متخفیا، وأدخل المجلس العسکری الحاکم فی إطار بحث ومواجهة مرحلة جدیدة مختلفة تماما عن سابقتها، فالجهد الشعبی لن یکون مثمرا ما لم یجترح التواصل والاستمرار، ویمتهن التخطیط والإعداد والتنظیم فی إطار تغییر الواقع السیاسی العفن الذی یحکم العلاقة المصریة الإسرائیلیة حتى الیوم.

فلسطینیا، تتملکنا مخاوف مشروعة من الاعتبارات التی تقف خلف توجه السلطة نحو الأمم المتحدة، ومساحة الثقة التی یمکن منحها للرئیس محمود عباس فی ظل مواقفه المحکومة بالنوازع الشخصیة والدوافع المصلحیة، إلا أنه یمکن، بشکل عام، الاستفادة من التجاذب الحاد بین الموقفین: الفلسطینی والإسرائیلی بخصوص قضیة أیلول لجهة الدفع باتجاه محاصرة الموقف الإسرائیلی على حلبة السیاسة الدولیة، فالموقف الفلسطینی الرسمی، وإن کان تکتیکیا ولا یتسم بالطابع الإستراتیجی، یشکل الضلع الثالث فی مثلث عزل السیاسة الإسرائیلیة، وإحدى معاول مواجهة وإشغال الموقف الإسرائیلی داخلیا وخارجیا.

 تدرک إسرائیل أن انسداد أفق مفاوضات التسویة مع الفلسطینیین، وإصرارها على مواصلة البناء فی المستوطنات، یصب فی صالح الموقف الفلسطینی ویضر بالموقف الإسرائیلی المتعنت، ما یخفف مفاعیل الضغط والحراک الدولی التقلیدی المفروض على الجانب الفلسطینی ویحولها تدریجیا لتمس صلب المواقف الإسرائیلیة.

وهکذا فإن معادلة الضغط الدولی التی سحقت عظام السلطة الفلسطینیة منذ تأسیسها تتعرض الیوم للاختلال على إیقاع تطرف السیاسة الإسرائیلیة الحالیة، وافتقار حکومة نتنیاهو إلى المرونة اللازمة لإدارة الشبکة التفاوضیة مع الفلسطینیین.

ومن الطبیعی أن التحول المطرد فی معادلة الضغط الدولی یجعل السلطة الفلسطینیة أقل عرضة وأکثر تحررا من القیود والضغوط المفروضة، ویمنحها مزیدا من الجرأة لمعاندة المواقف والسیاسات الإسرائیلیة الخاصة بمسیرة التسویة والمفاوضات، ما یرهق کاهل الحکومة الإسرائیلیة ویجعلها أکثر انشغالا بتفاصیل السجال المتواصل والمتصاعد مع الفلسطینیین، ویحرمها من فرص توظیف المفاوضات کغطاء لاستمرار الأنشطة الاستیطانیة والتهویدیة والسیاسات العنصریة والعدوانیة بحق الفلسطینیین.

نعوّل على إنجازات تراکمیة على المستویین: الترکی والمصری بالدرجة الأولى، وعلى المستوى الفلسطینی بدرجة ثانیة، فکل جهد ضاغط على الاحتلال یرفع من أسهم شعبنا الفلسطینی وشعوبنا العربیة والإسلامیة، ویخفض من علوّ وهیمنة الاحتلال، ویعلی من شأن مشروعنا العربی والإسلامی الکبیر لتغییر محددات وأسس الواقع باتجاه صیاغة الواقع المنشود الذی تبدو فیه إسرائیل نقطة صغیرة معزولة فی بحر العرب والمسلمین الهادر، تمهیدا لإزالتها تماما عن خارطة الوجود بإذن الله.

على إسرائیل أن تتوقع تشکّل جبهة عداء ترکی واضح رسمیا وشعبیا فی المرحلة المقبلة، ولن یطول الأمر حتى تتحول جبهة العداء المصری من إطارها الشعبی إلى إطارها الرسمی بفعل قوة الإرادة والکرامة المصریة الحرة، بموازاة جبهة عداء مفتوحة على الصعید الفلسطینی.

مع کل یوم جدید تتعمق الأزمة السیاسیة الإسرائیلیة دولیا، وتخسر إسرائیل المزید من التعاطف والتأیید الإقلیمی والدولی الذی حصدته فی مراحل سابقة سادت فیها حِیَل الخداع والمکر والمناورة والتضلیل، وستبقى خسارتها واقع الحال وسیدة الموقف ما لم تنقلب على موازین موقفها السیاسی الراهن الطافح بالصلف والاستکبار.

وبالرغم من شدة وقع الضربات الترکیة والمصریة والفلسطینیة التی تلقتها إلا أن الحکومة الإسرائیلیة لم تفقه بعد دروس السیاسة الجدیدة المتبلورة فی المنطقة، ولم تستخلص العِبَر البالغة التی حملها الربیع العربی الثائر وتحولاته الکبرى.

عربیا، لن تحظى إسرائیل بعد الیوم بالخدمات المجانیة ذاتها التی توفرت لها سابقا، فحلفاؤها أو الصامتین علیها والمهادنین لها، منهم من سقط، ومنهم من یقاوم السقوط، ومنهم من ینتظر، ولن تعاند إرادة الصغار -مهما بلغت- قوانین التغییر والاستبدال وسنن الکون ونوامیس الحیاة.

دولیا، لم تعد الإدارة الأمیرکیة قادرة على تأمین الدعم السیاسی الکامل والغطاء التام للموقف والسیاسة الإسرائیلیة، فالموقف الأمیرکی بات أسیر الحرج والعجز عن مجاراة ومسایرة العجرفة والتشدد الإسرائیلی فی الکثیر من المواقف والمجالات، فیما تبدو الکثیر من المواقف الأوروبیة أکثر بعدا عن قبول السیاسة الإسرائیلیة، وأکثر احتفاظا بمسافة واضحة بعیدا عنها.

الربیع العربی یشکل کلمة السر ومفتاح النجاح فی إسدال الستار على مرحلة الجبن والخنوع العربی والإسلامی، وتدشین مرحلة العزة والکرامة والانتصار للعروبة والإسلام، وإرساء القواعد الصلبة والأرضیة المتینة لعزل ومحاصرة إسرائیل إقلیمیا ودولیا، ونزع الشرعیة عن سلوکیاتها الإجرامیة ومخططاتها العنصریة بحق الشعب الفلسطینی والشعوب العربیة والإسلامیة.

الجهد التراکمی لعزل السیاسة الإسرائیلیة أشبه ما یکون بکرة الثلج المتدحرجة التی تکبر یوما بعد یوم، ویبدو أن مسار العزلة السیاسیة لحکومة نتنیاهو الذی تجلت أهم فصوله بانهیار التحالف الإستراتیجی مع ترکیا، والتوتر الحاد مع المصریین والفلسطینیین، سوف یشهد مدى أطول مما هو متوقع فی ظل غیاب البدیل السیاسی والحزبی داخل إسرائیل القادر على مواجهة الارتکاس الحاصل فی السیاسة الإسرائیلیة خارجیا.

 على أیة حال فإن المعرکة لإنهاء العلاقات الترکیة بالاحتلال وإسقاط معاهدة "کامب دیفید" وعزل الموقف الإسرائیلی دولیا بدأت الآن، وعلى إسرائیل أن تتوقع الأسوأ مع کل صباح یشرق فی فضاء الربیع العربی والإسلامی البدیع وإشعاعاته الکبرى.

 ن/25


| رمز الموضوع: 143297







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
  1. صنعاء تستهدف "بن غوريون" بصاروخ باليستي فرط صوتي.. وتُهاجم هدفاً في يافا المحتلة
  2. كتائب القسام توقع قوة إسرائيلية في حقل ألغام.. وجنود الاحتلال بين قتيل وجريح
  3. المشّاط للإسرائيليين: لا تراجع عن إسناد غزّة.. الزموا الملاجئ ردّنا سيكون مزلزلاً
  4. الإدارة الأميركية ترضخ.. القوات اليمنية تستفرد بالعدو الصهيوني
  5. انصار الله: إعلان ترامب فشل لنتنياهو
  6. سرايا القدس تسيطر على مُسيرة إسرائيلية شرق مدينة غزة
  7. العدوان الإسرائيلي على مطار صنعاء الدولي.. هجوم استعراضي موجه للداخل الصهيوني
  8. عدوان أمريكي إسرائيلي غاشم على اليمن بعشرات الطائرات
  9. وزير الخارجية الإيراني: الدعم القاتل لإبادة نتنياهو الجماعية في غزة، وشن الحرب نيابةً عنه في اليمن، لم يُحققا شيئاً للشعب الأميركي
  10. طهران ترفع الستار عن وثائقي للمقاومة في فلسطين وايرلندا
  11. حكومة الاحتلال تقرّر توسيع الحرب على غزة رغم التحذيرات
  12. وزير العلوم الإيراني: الرأي العام العالمي لا يعترف بالكيان الصهيوني
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)