التغییر لن یکون سهلاً.. والنتائج لن تکون سریعة
التغییر لن یکون سهلاً.. والنتائج لن تکون سریعة
صبحی غندور مدیر "مرکز الحوار العربی" فی واشنطن
تساؤلات عدیدة ترافق الآن حرکات التغییر والثورات الحاصلة فی المنطقة العربیة. فصحیح أنّ هذه الحرکات الشعبیة الساعیة للتغییر هی کلّها نابعةٌ من إرادات وطنیة محلیة، وهادفةٌ إلى تحقیق إصلاحات دستوریة واقتصادیة واجتماعیة تحتاجها فعلاً بلدان هذه الثورات، لکن ما هو غیر واضح حتّى الآن مدى التغییرات التی ستحدث فی هذه المجتمعات، وهل ستقتصر على تغییر فی الأشخاص وصیغ الحکم أم ستشمل التحالفات والسیاسات الخارجیة، ثمّ ما صورة البدیل المنشود عن الحکم المرفوض!.
أیضاً، من القضایا المثیرة للانتباه الآن عدم وجود وضوح فی هویّة القوى التی تقوم بعملیات التغییر وقیادة الثورات الشعبیة. فالثورات هی جسر وممر، ولیست مستقرّاً للشعوب. هی وسیلة انتقال من ضفّة لأخرى، والناس جمیعاً یعرفون الضفّة السائدة أو التی یُثار علیها لکن ما زالت ملامح الضفة الأخرى، رغم الحدیث عن لونها الدیمقراطی المنشود، غامضة.
فمن المسائل التی ترتبط فی مرحلة ما بعد الثورات، تبرز قضیة السیاسة الخارجیة کمحور هام لأیِّ بلدٍ عربی، إذ یتوجّب على المتغیرات الجاریة فی المنطقة العربیة أن تتعامل مع الصراع العربی/الصهیونی وتفرّعاته التی فرضت مثلاً التطبیع مع إسرائیل على دول بعیدة عن أرض الصراع کموریتانیا وبعض دول الخلیج العربی. وفی هذا الصراع أیضاً جوانب ثقافیة واقتصادیة إضافةً إلى وجود محاور إقلیمیة تفرض نفسها حتماً على أی بلد عربی یعیش الآن حالة ثورة وتغییر داخلی.
المسألة الدیمقراطیة على أهمّیتها غیر منعزلة أیضأ عن الموقف من محاولات الهیمنة الأجنبیة على بلدان المنطقة وثرواتها، وعمَّا هو موجود من قواعد عسکریة أجنبیة ومن صراعات دولیة وإقلیمیة على أرض العرب.
کذلک، نجد من المسائل الغامضة الآن بعد التحوّلات الکبرى التی تشهدها المنطقة، قضیة العلاقات العربیة/العربیة، وما یرتبط بصیغ التعاون العربی المنشود، والذی به تصون الأوطان العربیة نفسها من التدخّلات الخارجیة. فالتأکید على الهویّة العربیة لأوطان المنطقة وشعوبها هو سیاج أمنٍ خارجی کما هو أیضاً حاجةٌ داخلیة ترتبط بوحدة المصالح وبأهمّیة التکامل بین بلدان المنطقة.
وستطمئنّ الأمَّة العربیة لکلِّ تغییر یحدث الآن فیها إذا کانت سماته المشترکة هی الدیمقراطیة والتحرّر الوطنی والهویّة العربیة. فلا ینفصل نجاح واحدة من هذه السمات عن الحاجة للنجاح أیضاً فی السمات الأخرى.
التغییر الشامل والکامل لن یکون سهلاً فی أیِّ بلدٍ عربی، لکن من المهمّ أن یکون شاملاً للأشخاص وصیغ الحکم والسیاسات، وأن یکون کاملاً فی کلِّ مجال فلا یکتفی بأشکال التغییر بل یکون محقّقاً فعلاً لما تطمح الیه الشعوب من عدل سیاسی واجتماعی، ومن ضمانات لحرّیة الوطن والمواطن معاً، ومن بناء دستوری یحقّق المشارکة الشعبیة فی الحکم ویساوی بین جمیع المواطنین ویصون وحدة الأرض والشعب.
إنّ المنطقة العربیة تشهد الآن ظاهرة "الثورات الدیمقراطیة" بمعزل عن أیّة قضیة أخرى، حتّى بمعزل عن حرّیة بعض الأوطان من الهیمنة الأجنبیة.
ومن الطبیعی أن یتحرّک الشارع العربی للمطالبة بأوضاع أفضل ومن أجل حقّ المشارکة الفعّالة فی الحیاة العامّة، لکن المشکلة أنّ بعض الحرکات السیاسیة المشارکة فی الثورات الشعبیة تحتاج هی نفسها إلى آفاق فکریة واضحة المعالم، وإلى أطر تنظیمیة سلیمة البناء، وإلى قیادات مخلصة للأهداف..
أیضاً، فإنّ الواقع العربی الراهن تختلط فیه مفاهیم کثیرة لم تُحسَم بعدُ فکریاً أو سیاسیاً. وهذه المفاهیم هی أساس مهم فی الحرکة والتنظیم والأسالیب، کما هی فی الأفکار والغایات والأهداف. فما هو الموقف من التعدّدیة بمختلف أنواعها داخل المجتمع، وما هو الفاصل بین المقاومة المشروعة وبین الإرهاب المرفوض، وما هی العلاقة بین حرّیة الوطن وبین حرّیة المواطنین؟ وکیف یمکن الجمع بین الدیمقراطیة وبین الحفاظ على وحدة النسیج الاجتماعی فی کلّ بلد؟ وهل طریق الدیمقراطیة یمرّ فی تجزئة الکیانات؟ ثمّ ما هی آفاق هذا التغییر المنشود من حیث العلاقة مع إسرائیل، وهل ستکون "الشرق أوسطیة" هی الإطار الجامع لدول المنطقة مستقبلاً أم ستکون هناک خطوات جدّیة نحو تکامل عربی شامل یعزّز الهویّة العربیة المشترکة ویأخذ بالنموذج الاتحادی الأوروبی کصیغة مستقبلیة للعلاقة بین الدول العربیة؟
طبعاً، هو إنجاز کبیر حدث ویحدث حتّى الآن فی أکثر من بلد عربی. فإیقاف حال الانهیار والانحطاط والفساد السیاسی والتحکّم بأرزاق الناس وبرقابها.. کلّها مکاسب کبیرة لأی شعب خضع لحکم ظالمٍ ومستبدٍّ وفاسد، لکن سؤال "ماذا بعد" هو أیضاً مسألة هامة تستوجب عدم الرکون لحدوث التغییر فقط. حتماً هناک مسافة زمنیة مطلوبة لتحقیق البناء. فهدم الموجود هو دائماً أسهل بکثیر من بناء المرغوب، فلا ینتظرنَّ أحدٌ نتائج سریعة من أی تغییر حدث، لکنْ أیضاً یجب ألا یُکتَفى حصراً بما حدث. هی ثوراتٌ وحرکات تغییر حدیثة الولادة ولم تنضج بعد، لکنّها بحاجة لرعایة أهلها حتى تبلغ رشدها.
لقد توفّرت فی هذه الثورات لغایة الآن عوامل إیجابیة کثیرة: الإرادة والعزم على إحداث التغییر مهما کانت التضحیات، الشجاعة فی الصمود والمواجهة مع حالات العنف السلطوی، الحرص على سلمیة التحرک، عدم الشعارات الفئویة التی تُنفر الآخرین من قطاعات الشعب المتعدّدة، والدور الفاعل للجیل الجدید فی عملیات التواصل التقنی من أجل التعبئة الشعبیة للتحرّک. لکن هذه الإیجابیات لا تمنع وجودَ مخاوف من سلبیات قائمة أصلاً فی بعض المجتعات العربیة التی فیها انقسامات طائفیة ومذهبیة أو أیضاً نوازع إنفصالیة کما هو الحال فی جنوب الیمن. فالمطلوب دستوریاً هو دیمقراطیة تحقّق فصل السلطات ولیس فصل الکیانات.
إنّ الحرّیة، بمعناها الشامل، کانت وستبقى، رکناً مهمّاً فی کلّ الرسالات السماویة، والقیم الإنسانیة العامة. الحرّیة تبقى عاجزةً وناقصة إذا لم تترابط فیها مسألة التحرّر من سیطرة الخارج مع مسألة التحرّر من الاستبداد الداخلی. الحرّیة، التی هی کالطیر، بحاجة إلى تکامل جناحی الدیمقراطیة السیاسیة والعدالة الاجتماعیة، کی تستطیع التحلیق عالیاً. الحرّیة هی القضیة الملازمة لوجود الإنسان أینما وُجد ومنذ بدء الحیاة الإنسانیة على الأرض. الحرّیة هی التی ترتبط بحقّ الاختیار، وبالتالی، الارتباط مع میزة الإنسان بأنّه صاحب إرادة ومشیئة لعمل شیء ما أو عکسه.
کذلک، فإنّ التعامل مع المسألة الدیمقراطیة فی المنطقة العربیة لا یمکن أن یتمّ بمعزل عن تحدّیات الوجود الإسرائیلی وأطماعه السیاسیة والاقتصادیة، وتحدّیات الإرادة الأجنبیة فی فرض التجزئة والتخلّف منذ عشرات السنین على الأمّة العربیة.
إنّ الدیمقراطیة السیاسیة والتکامل الاتحادی وجهان لمشروع عربیّ واحد لمستقبل أفضل، وعماد هذا المشروع هو مفهوم الحرّیة الشامل للمواطن العربی وللأوطان العربیة، للإنسان وللأرض معاً.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS