الاثنين 14 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

التحول المصری وفضاء القضیة الفلسطینیة

علی بدوان

تعیش الدولة العبریة الصهیونیة حالة من القلق والهلع المتزاید نتیجة التحولات الدراماتیکیة الجاریة فی العالم العربی، وتحدیداً بعد رحیل نظام حسنی مبارک والإطاحة به على ید قوى الشعب المصری.

وجاءت تصریحات وزیر الخارجیة المصری الأخیرة والتی حذر فیها «إسرائیل» من مغبة القیام بعمل

سکری ضد قطاع غزة، لتزید من منسوب القلق فی «إسرائیل» جراء التحول الممکن فی السیاسة المصریة فی المراحل القادمة.

التحول المصری والجبهة الجنوبیة

ومن الواضح بأن الجزء الأساسی من القلق «الإسرائیلی» تتحمله قطاعات الأجهزة الأمنیة والعسکریة، التی عادت للاستنفار العالی، فی ظل ما یحصل داخل الأراضی المصریة من تغیرات دراماتیکیة، لاسیما أنه ومنذ ثلاثین عاماً ونیف مضت، ساد الهدوء المطبق على الجبهة الجنوبیة مع مصر، ولم تسأل أی حکومة عبریة جیشها: ماذا لدیک فی مواجهة الجبهة المصریة، وماذا ینقصک، وکم من الوقت تحتاج کی تستعد، وکم سیُکلّف ذلک؟ کما لم یطلب المستوى السیاسی أن یُعرض علیه أی خطط عسکریة مع جداول زمنیة وترتیب أفضلیات، لوضع تحول استراتیجی فی الساحة المصریة، فإسرائیل دفنت رأسها فی الرمال بالنسبة للجبهة المصریة منذ توقیع اتفاقیة کامب دیفید عام 1979، معتقدة بأن التاریخ طوى الجبهة المصریة والى الأبد، وأن مصر خرجت ولن تعود إلى ساحة الصراع المباشر معها، حتى بالمعنى السیاسی.

لقد ساد الاعتقاد فی «إسرائیل» بأن مضاءلة القدرات العسکریة على الجبهة الجنوبیة مع مصر إلى الحد الأدنى بأنه إجراء طبیعی، وجزء من ثمار السلام مع مصر، إلى درجة تم فیها «محو المعلومات» التی تجمعت طوال السنین عن هذا المیدان وفق الصحفی «الإسرائیلی» الیکس فیشمان، معتبراً ذلک جریمة لا تُغتفر، بحیث أعفت الجهات «الإسرائیلیة» نفسها طوال السنوات الثلاثین الماضیة (على حد زعمه) من جمع المعلومات الاستخباریة لاحتیاجات عملیاتیة وتکتیکیة، حتى المعلومات الأساسیة، مضیفاً القول إن أی جنرال «إسرائیلی» لا یستطیع الیوم بناء نظریة قتالیة على جبهة صحراء سیناء، ولن یجدها فی أی مخزن، ربما یجدها فی متحف الجیش «الإسرائیلی» فقط على حد تعبیره.

وعلیه، فقد أثبتت أحداث الثورة المصریة خطأ الاعتقاد الذی کان سائداً لدى الاستخبارات العسکریة «الإسرائیلیة» الذی صور الأمور فی مصر بشکل تبسیطی جداً، فرسم سیناریو للحالة المصریة مع هبوب انتفاضة الشعب المصری، یتمثل فی أن إدارة الرئیس المخلوع حسنی مبارک ستنقل السلطة بصورة منظمة إلى مسؤولین کبار فی جهاز الأمن المصری برئاسة الجنرال عمر سلیمان، فینقلها بسلاسة إلى جمال مبارک، أو وریث آخر من قماشة ولحم وعظم النظام ذاته.

فلسطین والحدث المصری «إسرائیلیا»

وفی هذا المسار من التحولات الحیة والنوعیة، فان النقاش بدأ یدب فی مفاصل الکیان الصهیونی وعلى مستویاته العلیا السیاسیة والأمنیة والعسکریة، جراء الحدثین المصری والتونسی، وجراء النهضة العارمة للناس فی المنطقة، فـ «إسرائیل» لن تبقى فی الوضع ذاته نتیجة تغیر الفضاء الاستراتیجی للقضیة الفلسطینیة، ومن هنا فان القلق «الإسرائیلی» أعطى تعبیراته على الأرض من خلال التخوف «الإسرائیلی» من عدة قضایا مترابطة:

أولاً: من إمکانیة عودة الجبهة الجنوبیة مع مصر ولو بعد حین إلى جبهة ساخنة فعلیة، وهو مادفع بوزیر الحرب الصهیونی الجنرال أیهود باراک للإعلان عن سعی «إسرائیل» لتعزیز الإنفاق العسکری لمواجهة ما سماها التهدیدات الناجمة عن النتائج المحتملة وعلى المدى المنظور من الثورات الشعبیة الحالیة فی العالم العربی، التی وصفها بالزلزال التاریخی. مشیراً فی الوقت نفسه إلى أن «إسرائیل» قد تطلب دعما إضافیا بقیمة عشرین ملیار دولار، فی إطار المساعدات الأمنیة الأمیرکیة.

ثانیاً: سقوط عملیة التسویة عند عموم الفلسطینیین وسقوط (وهم) إمکانیة تحقیق التسویة، والحل القریب عبر المفاوضات، وبالتالی الإطاحة بعملیة «التسویة» من قبل الشعب الفلسطینی خصوصاً حال تحقیق المصالحة والوحدة الوطنیة الحقیقیة على أساس برنامج الإجماع الوطنی المستند للمقاومة بکل أشکالها. إن هذا الاعتبار دفع بالجنرال فی الاحتیاط، یعقوف عمیدرور رئیس مایسمى بـ «مجلس الأمن القومی الإسرائیلی»، لإطلاق صیحة التشدد، واعتباره للمفاوضات مع الفلسطینیین مضیعة للوقت، ودعوته لإعادة احتلال غزة، وهو الذی اقترح على باراک ضرب الفلسطینیین بالفسفور الأبیض عندما کان سکرتیره العسکری إبان العدوان الواسع على القطاع. ومقابل تلک الأصوات برزت أصوات «إسرائیلیة» نادت وتنادی ضرورة الوصول إلى اتفاق مع الفلسطینیین لأن البدیل هو الحرب وخسارة تامة للرأی العام العالمی حسب وجهة نظر أصحابها، الذین أضافوا القول إن ذلک سیضع «إسرائیل» أمام أحد خیارین: إما الانصهار والذوبان فی منطقة الشرق الأوسط وزوال یهودیتها، أو أنها ستزول ککیان عن طریق قیام دولة واحدة «ثنائیة القومیة» ولو بعد حین مثلاً.

ثالثاً: إن التحول المصری أحدث تغیّراً فی الفضاء السیاسی المحیط بفلسطین والقضیة الفلسطینیة، وهو تغیّر سینحو فی نهایة الأمر إلى انتقال مصر من موقع الوسیط بین الطرفین الإسرائیلی والفلسطینی، ومن موقع تمریر الرسائل الأمیرکیة ــ الإسرائیلیة إلى موقع الداعم والمساند والحامل للقضیة الفلسطینیة، بعد أن کانت القاهرة قد مارست طوال السنوات الماضیة ضغوطاً کبیرة على مجل الحالة الفلسطینیة من أجل غایات محددة أمیرکیا وإسرائیلیا، ومنها الضغط على الشهید الراحل یاسر عرفات قبل وفاته، إضافة للضغط على حرکة حماس وعموم القوى الفلسطینیة فی قطاع غزة، ثم الحصار الخانق على القطاع ومنع قوافل الإغاثة وإقامة جدار الفصل الفولاذی.

رابعاً: إن الحدث المصری والتحولات الجاریة فی المنطقة العربیة، یفتحان الأبواب أمام إمکانیة اندلاع انتفاضة فلسطینیة جدیدة ثالثة فی الأرض المحتلة، انتفاضة تزلزل کیان «إسرائیل»، وتقلب کل المعطیات التی طالما بنت علیها الإدارة الأمیرکیة مشاریعها ورؤاها للتسویة، وإنهاء القضیة الفلسطینیة. وهنا یتحدث محللون ومتابعون من بعض التیارات الصهیونیة المحسوبة على «الیسار الصهیونی» عن تأثیر التجربة الفلسطینیة وتضحیات الفلسطینیین من أجل التحرر والعیش بکرامة، فی إحیاء روح الثورة لدى الشعوب العربیة، وکسر حاجز الخوف من الزعیم والدبابة والسلاح فی سبیل الحریة، معتقدین بان الانتفاضات الفلسطینیة المتتالیة، باتت عاملاً أساسیاً فی بث روح التحدی لدى الشعوب العربیة، وهو أمر یفتح أفقاً جدیداً ومختلفا للعرب والفلسطینیین، ویمکّن من استعادة مصر لدورها الإقلیمی والقومی فی المنطقة وسیساعد على إنهاء ظاهرة الانقسام والتفکک على الساحة الفلسطینیة.

إن التخوف من اندلاع انتفاضة ثالثة فی فلسطین دفع بقیادة جیش الاحتلال، لوضع برنامج شامل لمکافحة أی نهوض شعبی فلسطینی فی الضفة الغربیة، فیما نقلت صحیفة «هآرتس» عن ضباط کبار فی جیش الاحتلال من الذین خدموا فی الضفة الغربیة قولهم «إن لدیهم شعورا انه لیست هناک طریقة للتعامل بفعالیة مع انتفاضة شعبیة واسعة النطاق» وأن على جیش الاحتلال «أن یراقب لیس فقط خطط ونوایا المنظمات الفلسطینیة، بل أیضا على ما یجری داخل مختلف المجموعات التی تشکل المجتمع الفلسطینی». وعلى هذا الأساس نستطیع تفسیر التصعید العدوانی العسکری «الإسرائیلی» ضد قطاع غزة، وقیام جیش الاحتلال بترکیب نظام الاعتراض الجدید للصواریخ التی قد تطلق من قطاع غزة، وإجراءه لاختبارات التجریب المیدانی مباشرة على حدود القطاع.

استخلاصات

وبالاستخلاصات الأخیرة، إن مصر تحت إدارة النظام المخلوع السابق تجاوزت حتى التزاماتها حسب نصوص معاهدة کامب دیفید لعام 1979، وتحولت إلى (بلدوزر) لتطویع مجموع الحالتین العربیة والفلسطینیة لصالح برنامج التسویة الأمیرکیة «الإسرائیلیة» المطروح على الفلسطینیین بشکل خاص. وقد جاءت انتفاضة الشعب المصری لتهیل التراب على هذا الدور البائس الذی ساد لعقود ثلاثة مضت، ولیعید مصر تدریجیاً خطوة خطوة، إلى فضائها العربی الحقیقی، خصوصاً بالنسبة للقضیة الفلسطینیة، وقد لا تکون فلسطین فی أعلى قائمة الأجندة بالنسبة للثورة خلال تحرکها خلال الفترة الانتقالیة الراهنة التی نعیش فصولها فی مصر العربیة، ولکنها ودون أدنى شک فان فلسطین ستکون فی نهایة الأمر هی المحصلة فی مجهود ونتاج الثورة المصریة، فقضیة فلسطین منذ نشأتها تتعلق بالأمن القومی المصری ومکانة وقیمة وثقل ودور وحضور مصر عربیاً. ومن الصعب القول إن الشعب المصری وعموم قواه السیاسیة والمجتمعیة سیقبل بالنمطیة السابقة نفسها التی سادت طوال العقود الثلاثة الماضیة فی التعاطی المصری مع القضیة الفلسطینیة.

وعلیه، علینا أن نصبر دون أن نتعجل کثیراً فی تقدیر التوقعات بالنسبة للتحول فی الموقف المصری. فالتحول واقع لا محالة، وستکون مکاسبه هائلة للفلسطینیین ولقضیة العرب فی فلسطین، لکن صیرورة ذلک التحول تحتاج لعملیة سیاسیة لابد أن تأتی بطریقة صحیحة فی ظل التطور الیومی فی الوضع المصری بعد إقرار التعدیلات الدستوریة وبانتظار الانتخابات التشریعیة القادمة، وصولاً لبرلمان مصری جدید، سیقول کلمته فی کل مسألة من المسائل المطروحة، وخصوصاً منها المتعلقة بمعاهدة کامب دیفید وذیولها، وبدور مصر الاقلیمی والعربی المفتقد.

ن/25


| رمز الموضوع: 143162







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)