المقاومة هی جامعة الشعوب العربیة
محمد حسین فضل الله
هل بقیت هناک حاجة للجامعة العربیة فی قضایا العالم العربی الحیویة أو المصیریة؟
لقد وُلدت هذه الجامعة کمنظمة من إرادة غیر عربیة، وذلک فی ظل رعایة الدولة البریطانیة التی استهدفت الإمساک بالقرار العربی، واحتواء السیاسة العربیة مجتمعة لحساب السیاسة الغربیة آنذاک..
ومنذ بدأت القضیة الفلسطینیة تتحرک فی الاهتمامات السیاسیة لهذه الجامعة، کانت فلسطین تسقط بید الیهود خضوعاً لمعادلة اللعبة الدولیة التی تحرکت فی مفاصل القرار العربی، وإن تمّ تغطیة ذلک بأکثر من حرب تمثیلیة، وکانت التنازلات العربیة تتوالى من قمة إلى قمة، حتى انتهت إلى قمة بیروت العربیة التی قدم فیها العرب لإسرائیل السلام والاعتراف فی مقابل الأرض، ورفضت إسرائیل ذلک بالتنسیق مع أمیرکا التی اعتبرت القرار صالحاً للتفاوض لا للتنفیذ!!
لقد دخلت القضیة الفلسطینیة فی المتاهات السیاسیة، وتوّج ذلک بنجاح السیاسة الأمیرکیة فی التخطیط للصلح العربی الإسرائیلی فی مصر والأردن. وضمن هذا الجو جرى إلغاء أیة مقوّمات لحرب عربیة تستهدف تحریر فلسطین، وکان آخر نصر عربی فی مصر قد تحوّل إلى هزیمة، لتتحوّل سیاسة أغلبیة الأنظمة العربیة بعد ذلک نحو الاعتراف بإسرائیل، وفتح ممثلیات اقتصادیة وسیاسیة تحت الطاولة وفوقها، کوسیلة دبلوماسیة تخطط للصلح الکامل فی المستقبل، وسقطت بفعل هذا التراجع العربی معاهدة الدفاع المشترک بین العرب والمقاطعة الاقتصادیة لإسرائیل..
وعلى هذا المسار نفسه، تحولت لقاءات الجامعة العربیة إلى ما یشبه الإنشاء العربی فی قراراتها على مستوى المندوبین ووزراء الخارجیة والقمة، لأنهم لم یستطیعوا الاتفاق على القضایا الحیویة، وانحسرت بذلک عملیة إصدار القرار العربی لا إلى ما یبرر التراجع فحسب، بل لحفظ ماء الوجه، ولم یبقَ هناک عالم عربی بالمعنى السیاسی منذ مؤتمر مدرید الذی لم یسمح للجامعة حتى بدور المراقب، لأن إسرائیل ومعها أمیرکا لا تقبل بالمفاوضات مع العرب مجتمعین، لأنها لا تعترف بعالم عربی بل تتعامل مع کل قطر بمفرده..
وهکذا انطلقت التمزقات العربیة فی دائرة الضغط الأمیرکی، لتصل إلى مستوى تحرّر العرب من فلسطین بدلاً من تحریرها.. ودخلت القضیة من جدید فی اللعبة الدولیة، ولا سیما فی الاستراتیجیة الجدیدة للإدارة الأمیرکیة، وهو ما تجلى فی إلقاء قادة هذه الاستراتیجیة أکثر من حدیث خادع عن الدولتین: الفلسطینیة والإسرائیلیة، مما یُکثر الرئیس الأمیرکی الحدیث عنه بطریقة استهلاکیة، وخصوصاً فی الترویج لخطة خارطة الطریق التی قرّرتها اللجنة الرباعیة الدولیة، من دون أن تملک هذه الخطة أیة فرصة للتنفیذ بعیداً عن الإرادة الإسرائیلیة الأمیرکیة، فیما کانت إسرائیل فی هذه الظروف التفاوضیة الخادعة تتابع تنفیذ خطتها فی اقتطاع الأراضی الفلسطینیة لحساب المستوطنات فی الضفة والقدس، والجدار الفاصل، ورفضت بموافقة الولایات المتحدة الأمیرکیة عودة الفلسطینیین إلى بلادهم، وأکدت الصفة الیهودیة للدولة، وأسقطت القیادة الفلسطینیة، ورفضت المفاوضات تحت شعار عدم وجود شریک فلسطینی، وعملت مع الولایات المتحدة الأمیرکیة بعد الانتفاضة لتقدیم الأمن على السیاسة، وذلک فی ظل وتیرة إجرامیة متصاعدة ضد الفلسطینیین..
ولم تستطع الجامعة العربیة أن تفعل شیئاً بفعل الإرادة العربیة الرسمیة المشلولة، وعجزها المطلق أمام الضغط الأمیرکی.. وسرعان ما أخذت بعض الدول العربیة تتنکّر للانتفاضة وللفصائل المجاهدة، کما لو کانت هی المشکلة ولیست إسرائیل، حتى انها تنکّرت للحکومة الفلسطینیة المنتخبة بطریقة دیموقراطیة؛ لأن أمیرکا ومعها أوروبا لا توافق على التعاون معها إلا بشروط تعجیزیة.
وما زالت المجازر الیهودیة بحق الفلسطینیین لا تحرّک ساکناً فی قرارات الجامعة العربیة.. وکانت نهایة المطاف إعلان الأمین العام للجامعة أن عملیة السلام العربیة الإسرائیلیة ماتت بعد أن سلمتها أمیرکا لإسرائیل.. ولم یستطع العرب الوصول إلى قرار عقد قمة بعد العدوان الإسرائیلی على لبنان. وربما کان بعضهم یجد العذر لإسرائیل فی کل عدوانها لیحمّل المقاومة المسؤولیة فی ذلک، وبالرغم من أن شعوب العالم العربی وقفت ضد العدوان، ورفضت سیاسة أنظمتها وأیّدت المقاومة..
إن السؤال الذی یفرض نفسه على الجامعة العربیة هو: هل بقیت حاجة للجامعة بعد سقوط القضایا المصیریة عند هذه الأنظمة بالضربة الأمیرکیة والإسرائیلیة القاضیة؟ ولماذا یقبل الحکّام العرب بالإذلال الأمیرکی فی کل القضایا العربیة لحساب الدعم المطلق لإسرائیل حتى على مستوى وقف إطلاق النار، والهادف أولاً لمنع المجازر الوحشیة التی تقوم بها إسرائیل بالتنسیق الشامل مع أمیرکا؟
إن أمیرکا لم تمنح أی دولة عربیة فی المشکلة اللبنانیة والفلسطینیة أی موقف إیجابی، فی الوقت الذی نعرف فیه أن العرب لیسوا بحاجة إلى أمیرکا، سواء فی الجانب الاقتصادی أو السیاسی أو الأمنی، بل ان أمیرکا هی التی تحتاج العالم العربی.
إننا لا نطالب الأنظمة أن تعلن الحرب على إسرائیل کما یتحدث بعض الرؤساء بالرفض لذلک بل أن تمارس الضغوط على أمیرکا وإسرائیل بطریقة جدیة، ولو على مستوى سحب السفراء والممثلین للعدو، أم انهم لا یجرؤون حتى على هذه الخطوة التی یعتبرونها مخیفة لأنها قد تحمّلهم بعض التبعات من هنا وهناک؟!
إننا نلاحظ أن الجامعة لم تستطع أن تتدخل تدخلاً فاعلاً فی العراق والسودان والصومال وفلسطین ولبنان، بل أصبحت أمیرکا وحلفاؤها هی التی تسعى لفرض إرادتها على الشعوب العربیة، کما فی الحرب التی تشنها الإدارة الأمیرکیة على لبنان وفلسطین تحت عنوان تأکید المصلحة اللبنانیة والفلسطینیة، فیما هی تستهدف فعلیاً تدمیر هذه المصلحة لحساب الهیمنة الإسرائیلیة على لبنان وفلسطین..
ویبقى السؤال: ما هی الحاجة إلى بقاء الجامعة التی تحوّلت إلى شاهد زور، وإلى حائط مبکى لا یستطیع أن یمنع الفیتو الأمیرکی ضد أی قرار یهدف لحمایة أطفال غزة ونسائها وشیوخها وکل المدنیین؟!
ویبقى السؤال یفرض نفسه فی هذه اللحظات المصیریة: لماذا کل هذه الجیوش، وما نفع کل هذه الأسلحة؟! وهل بقی هناک عالم عربی یجمع العرب على قضایا المصیر، أم أن القطریة والإقلیمیة ستبقى هی الطابع للعلاقات بین العرب، وهو ما سیؤثر سلباً على حاضرهم ومستقبلهم؟!
وفی نهایة المطاف نقول: لقد أثبتت الأحداث أن المقاومة هی جامعة الشعوب العربیة؛ لأنها سر القوة والعنفوان، ولیست جامعة الأنظمة العربیة، والتی نرید لها أن تنسجم مع شعوبها، لا مع السیاسة الأمیرکیة التی أصبحت تتحرّک فی خلفیات أکثر القرارات العربیة.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS