الاثنين 14 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

عظة 'النبی صالح'

عبد الحلیم قندیل

 

تقریر أذاعته قناة 'الجزیرة' من قریة (النبی صالح) الفلسطینیة قدم الجواب الصحیح على أسئلة المأزق الفلسطینی برمتها .

مغزى التقریر أبعد من مشاهد الدراما فیه، فقد بدا أطفال الحجارة غایة فی الجرأة والشجاعة، وأقوى من غلظة اعتقال جنود الاحتلال للأطفال، فیما بدت لهفة الأمهات موحیة، بالعراک الشرس مع جنود الاعتقال، وباحتمال صبور لأذى التفتیش الهمجی، وبخوف على الأطفال ممتزج بدموع الفخر، وبالطلب الصامت للنجدة، وحیث لا یستمع أحد أو یقرأ، أو یشاهد ویتعظ.

قریة (النبی صالح) فی قلب المحنة، وأطفالها على خط النار والحصار، وقرارات الإبعاد جاهزة، والقلوب مشتعلة بجمرة البقاء فی الوطن الذی لا وطن غیره، بینما الرئیس عباس مشغول بسفریاته، وبإقاماته الخمس نجوم، وبلقاءاته مع ما یسمى الرباعیة الدولیة، وبثرثرات لا معنى لها عن مفاوضات لا تجری، ونتائج لا تجیء، وبینما المشهد الفلسطینی الأمامی مشغول بما یسمى حوارات المصالحة، وتبادل الشروط، وتقاذف الاتهامات، والبقاء فی وضع الضحیة التی تذبح نفسها، وقبل أن تذبحها إسرائیل، وتجتث الأطفال من أرض أحلامهم، ومن خضرة أوطانهم.

الطفل الصغیر الباسل من عائلة التمیمی بیده الحل، بیده الحجارة، واتجاه الحجر صائب تماما، ویحسم جدالا طال حول المطلوب عمله بالضبط، وفی سیاق عواصف وثورات تهز المنطقة کلها، وتلم نثار الحروف، وترد الاعتبار لکلمة 'انتفاضة'، فلیس من حل بغیر انتفاضة فلسطینیة ثالثة، وبغیر رجم الشیطان الإسرائیلی بالحجارة المقدسة .

یذهب الرئیس عباس إلى غزة، أو لا یذهب الآن، أو ینتظر حتى اتفاق فتح وحماس، لا یبدو کل ذلک مهما، المهم أن یذهب الکل الآن إلى حجارة النبی صالح، إلى انتفاضة مدنیة جماهیریة فی الضفة والقدس بالذات، إلى مظاهرات بعشرات الألوف، تتطور بعدها إلى تجمعات بمئات الألوف، تعتصم بالشوارع والمیادین، تتبارى الفصائل فی حشدها، وتتنافس فتح وحماس على قیادتها، وتبتعث من الموات الفلسطینی حیاة جدیدة، وتوحد الضمائر على نداء إجلاء الاحتلال، وکنس عملائه، وإزالة خیال المآتة المسمى بدولة أوسلو، التی تستعبد الفلسطینیین أکثر مما تفعل إسرائیل، وتطمس نور الیقظة فی نفوسهم، وتسد علیهم باب الشمس، وتجعل حیاتهم باردة کثلوج القطب الشمالی .

المطلوب ـ إذن ـ اتفاق على نقطة واحدة لا غیر، ولیس تضییع الوقت فی ذهاب وفود ومجیئها، وفی مناقشة تحفظات على ورقة المصالحة، وفی الحدیث عن ترتیبات لا ضرورة لها، وعن مواعید انتخابات تشریعیة أو رئاسیة، وکلها قصص لاعلاقة لها بهدف إنهاء الاحتلال، ولا بتحریر قطعة وطن نتبارى دیمقراطیا لتنظیم الحکم فیها، لا أن نقیم دولة بغیر أرض ولا سیادة، وهذه خطیئة أوسلو کطریقة تفکیر، وقبل خطایا التوریط الأمنی، وإذکاء التنافس الدموی على کعکة لیست فی الید، وخفض تکلفة الاحتلال الإسرائیلی إلى أدنى حد، وتوفیر أجواء هادئة ممیتة للروح، لا یعلو فیها صوت على صوت الجرافات الإسرائیلیة التى تهدم ملکوت الفلسطینیین، وتقیم ملکوت الیهود فی صورة مستوطنات تعلو وتزحف، ولا تترک للفلسطینیین سوى فتات أرض، یطلبون فیها الإطعام من جوع، والأمان من خوف لا یرحم ولا یتوقف .

نعم، الانتفاضة الفلسطینیة الثالثة هی الحل، وباستیحاء مشاهد الجموع فی عواصم الغضب العربی، وبما ملکت الأیدی من حجارة الوطن، وبغیر قیاس بلید لحسابات المکسب والخسارة، فقد تضاعف الاستیطان الإسرائیلی مرتین فی العام الأخیر وحده، والبقاء فی ترانزیت الانتظار لا یخدم سوى إسرائیل، وتنازع السلطتین فی غزة ورام الله لا یضیف سوى لبؤس الفلسطینیین، بینما الانتفاضة توحد، والحجارة ترشد، وکل تطور بالإیجاب فی حیاة الفلسطینیین على مدى العقود الثلاثة الأخیرة، کل تطور بالإیجاب لا تصح نسبته سوى لشیء واحد هو الانتفاضة، فقد أعادت الانتفاضة الحدیثة الأولى ـ 1987 ـ إحیاء قضیة الشعب الفلسطینی، وأدت الانتفاضة الثانیة ـ 2000 ـ إلى تفکیک مستوطنات غزة، وإجلاء قوات الاحتلال عن ترابها الطاهر، وبین الانتفاضتین، کان الشعب الفلسطینی یعید اکتشاف قوته الکامنة، ویعید بناء هویته القومیة الجامعة، فالشعب الفلسطینی مشتت فی الجغرافیا، نصفه خارج فلسطین کلها، ونصفه الآخر موزع فی فلسطین، وفی غرف جغرافیا تبدو منفصلة، غرفة فی غزة، وأخرى فی الضفة والقدس، وثالثة فی فلسطین المحتلة منذ 1948، وجاءت حجارة الانتفاضة الأولى لتقفز على أسوار الانفصال الجغرافی، وتبتعث هویة موحدة للمحاصرین جمیعا، وتطور قوة دفع هائلة إلى الانتفاضة الثانیة، کان عرب 1948 ـ قبل الانتفاضة الأولى ـ فی عالم یخصهم، کان ثمة ارتباط لعناصر بینهم مع منظمة التحریر الفلسطینیة، لکن الصورة العامة لهؤلاء کانت أقرب إلى معنى 'الأسرلة'، کان التیار السائد أقرب لمعنى الاندماج فی التکوین الإسرائیلی الیهودی، وکان کفاحهم جاریا فی مسرى ومطالب المساواة فی الحقوق المدنیة، لم یکن من مطلب قومی ولا طابع قومی لعمل طلائع فلسطینیی 1948، کان التصویت الأغلب لمصلحة 'راکاح' وجبهة العدالة والمساواة، وجاءت انتفاضة 1987 لتحدث انقلابا درامیا، استعاد وضوح الهویة القومیة العربیة للفلسطینیین، وشهد نزوحا کبیرا من أحزاب الاندماج الإسرائیلی ـ الفلسطینی، وتراجعا فی نفوذ راکاح، وتزایدا فی نفوذ جماعات وأحزاب عربیة فلسطینیة خالصة، کانت الحرکة الإسلامیة الصاعدة تضاعف نفوذها، وکان حزب 'التجمع الدیمقراطی' ـ بقومیته العربیة العلمانیة ـ یتقدم إلى صدارة المشهد، وکان التصویت الفلسطینی فی قواعده الأغلب یتجه لمصلحة ممثلیة الأبعد عن معنى الأسرلة، والأقرب إلى روح الانتفاضة الموحدة للشعور والوعی الفلسطینی، وبدت حرکة الشعب الفلسطینی أقرب إلى وحدة صافیة من کل کدر، وامتزج دم الشهداء فی معرکة واحدة، لا تمییز ولا تمایز بین دم شهداء غزة، ودم شهداء القدس، ودم شهداء الفلسطینیین من عرب 1948، کانت وحدة الدم تنتقل بنا إلى معنى جدید، وتعید بناء الرابطة الفلسطینیة قفزا فوق شتات الجغرافیا، وبرزت أسماء عزمی بشارة والشیخ رائد صلاح جنبا إلى جنب أسماء یاسر عرفات والشیخ أحمد یاسین، بدا هؤلاء ـ وغیرهم ـ کأبناء قضیة واحدة، لا أبناء قضایا متعددة تفرقت بها السبل، وهذه برکة المقاومة حتى لو کانت بالحجارة، هذه برکة الانتفاضة التى تزیح الرکام، وتجلو الصدأ، وتستعید أفضل معادن الشعوب تحت الاحتلال، فقضیة الشعب الفلسطینی هی قضیة تحریر وطنی، ولیست قضیة نزاع على سلطات فی أرض لم تتحرر بعد .

والظروف الآن أکثر من مواتیة، فقد ولدت أجیال لم تشارک فی الانتفاضتین الأولى والثانیة، والثورات الهائلة فی وسائل الاتصال تمدها بموارد حشد غیر مسبوقة الأثر، والبیئة الاستراتیجیة تتغیر بتداعیات الثورات وعواصف الناس فی العواصم العربیة، فیما یتواصل العد التنازلی لبقاء نظم البؤس، وقد کانت انتفاضات الفلسطینیین مصدر إلهام آن له أن یستعاد .

ن/25

 


| رمز الموضوع: 143138







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)