إسرائیل والثورات العربیة
فوزی الأسمر
تقلق روح الشباب الداعیة إلى التغییر والإصلاح فی الوطن العربی، إسرائیل. فقد بنت تل أبیب سیاستها خلال الأربعین سنة الأخیرة على أن التغییر فی العالم العربی غیر وارد، وأن الأنظمة القائمة، کون أنها ستکون وراثیة، لن تغیر الکثیر من الوضع القائم. ولهذا السبب سمحت إسرائیل لنفسها اتخاذ الخطوات التی تریدها دون وجل على جمیع الأصعدة، بعد أن قامت بدراسة وافیة لها.
فمنذ قیام هذه الدولة کانت هناک أصوات یهودیة تنادی إلى التعقل فی تطویر الأمور، والعمل على الوصول إلى اتفاق یعید للفلسطینیین بعضا من حقوقهم مقابل حل معقول ومقبول على الجمیع. فقد کان معروف عن دفید بن غوریون أحد أقطاب الحرکة الصهیونیة وأول رئیس حکومة فی إسرائیل، رفضه فی أعقاب الهدنة مع العرب بعد حرب 1948، احتلال الجزء الشرقی من مدینة القدس. السبب کما نشر فی صحیفة "هآرتس" "23/ 3/ 2011": "کون أنه فهم بأنه إذا توجهت إسرائیل نحو طریق الهویة الدینیة- المسیحیة، فإن التواصل بین الخط الإسلامی- المسیحی- الیهودی قد یؤدی إلى تدمیرها وخرابها ککیان. وفقط إسرائیل التی تدیر ظهرها لقدسیة القدس، وتفضل هویة واقعیة عادیة تستطیع أن تنتعش وتتطور".
ومعروف عن بن غوریون معارضته لقدسیة "حائط المبکى"، ولم یعتبره مهما لدرجة أنه قال فی أکثر من مناسبة أنه یجب هدم هذا الحائط، وبالتالی التخلص من فکرة البحث عن آثار "الهیکل الثانی"، حیث أن التنقیب الجیولوجی الهادف إلى العثور على أدلة تؤکد أن هذا الهیکل حقیقة کان قائما، وفی ذلک المکان، لا یزال التنقیب مستمرا لغایة الیوم ولکن بدون العثور على أیة أدلة تدعم هذا التفکیر.
والواقع أن بن غوریون عمل دائما على عدم جعل الصراع العربی-الإسرائیلی صراعا دینیا، معتقدا أن البُعد القومی فی الصراع یعطی إسرائیل قوة وشرعیة: "فنحن کنا هنا وأقمنا دولتنا القومیة وطرُدنا منها وها نحن نعود إلیها" حسب منطقه کیساری صهیونی علمانی. ولهذا کان یردد فی مقابلاته الإعلامیة ردا على سؤال حول قضیة اللاجئین الفلسطینیین: "هناک أراض شاسعة فی الدول العربیة فلیقیموا علیها".
فقد کان بن غوریون دائما متخوفا من وصول الیمین الصهیونی إلى سدة الحکم بسبب تطرفه الدینی، فقد حدث أکثر من مرة رفضه إشراک الأحزاب الیمینیة المتطرفة على غرار حزب "حیروت" الذی کان یتزعمه مناحم بغین، فی الإئتلاف الحکومی. وعندما سأله مرة أحد مستشاریه عن السبب قائلا لبن غوریون: أستطیع أن أفهم رفضک إشراک الحزب الشیوعی فی الحکومة، ولکن حزب الحیروت حزب صهیونی قومی. فرد علیه بن غوریون بمقولته الشهیرة: إذا وصل الیمین إلى سدة الحکم فی إسرائیل فهذا معناه نهایة الدولة".
وکان هناک بین المفکرین الیساریین الصهاینة من رأى الأمور تتطور بشکل قد یؤدی إلى إنهاء الکیان القائم، فدعى إلى حل الأمور بشکل یقبله الفلسطینیون والعرب. ومن بین هؤلاء أحد المفکرین الصهاینة الکبار والذی یتمتع بتأثیر کبیر على الرأی العام فی إسرائیل عاموس عوز، حیث اقتبست صحیفة "یدعوت أحرونوت" "29/ 3/ 2011" من کتاباته المقطع التالی: "على الیهود أن یفتشوا عن کل سبیل ممکن لإعادة ما سرق من الفلسطینیین، وأن یصححوا الظلم "الواقع علیهم" عن طریق سن قوانین، والقیام بأعمال جیدة ومقنعة. لقد حان الوقت أن یفصل الیسار الصهیونی نفسه عن سیاسة الاضطهاد الجاریة".
ولکن الموقف الإسرائیلی زاد تطرفا فی أعقاب وصول الیمین الإسرائیلی إلى سدة الحکم فی عام 1977. وبدأ التحدث عن "أرض إسرائیل الکاملة" بشکل رسمی، وبالحق الدینی على الأراضی المحتلة، وحق الیهود، الذی منحه إیاهم الله، من العیش على أیة قطعة من أرض إسرائیل، وبالتالی تحول الاحتلال السیاسی/ القومی إلى احتلال دینی/ تاریخی.
هذا التحول انعکس على الواقع داخل المجتمع العربی، خصوصا بعد وفاة الزعیم جمال عبد الناصر، وتقرب السادات من الإخوان المسلمین، ومن ثم سفره إلى القدس، وما تبعه من اتفاقیات کامب دیفید. فبدأت القضیة الفلسطینیة رویدا تأخذ منحا دینیا، وبدأ التحدث عن "تحریر الأقصى" بدلا من تحریر فلسطین أو تحریر الأراضی المحتلة.
هذا الوضع کان مریحا لإسرائیل ووجد الیمین الإسرائیلی ضالته، ووثق العلاقات مع الکنائس فی أوروبا وأمریکا، معتمدا على ما جاء فی التوراة من حق الیهود على فلسطین، وکرسه کحق سماوی غیر قابل للتأویل، ووجد هذا الیمین دعما کبیرا سیاسیا واقتصادیا وإعلامیا، واصبح التحدث عن أی حق فی فلسطین لغیر الیهود یعتبر "عداء للسامیة"، بل ذهبت بعض الدول إلى أبعد من ذلک عندما سنت قوانین تعتبر انتقاد إسرائیل عملا معاد للیهود، ویحاکم کل من یقوم بمثل هذا العمل حتى لو کان ذلک الشخص یهودیا معاد للصهیونیة. کما أصبحت کلمة صهیونیة مساویة مع الإسرائیلیة ومحرم توجیه أی انتقاد لأی منهما.
وتجاوب الکثیر من الدولة العربیة مع الطرح الدینی فی الصراع مع إسرائیل بهدف توجیه ضربة قاسمة لفکرة القومیة العربیة، والتی شعر الکثیر من الزعماء العرب أنها تهدد وجودهم. وبدأت بعض الحکومات العربیة تتقرب من إسرائیل خصوصا بعد اتفاقیتی السلام بین کل من مصر والأردن وإسرائیل. ولکن سرعان ما تبین أن هذا السلام سلام بین حکومات وسلام مصالح فقط، فأقامت علاقات اقتصادیة وفتحت مکاتب مصالح، وقام زعماء إسرائیلیون بزیارات علنیة فی بعض الدول العربیة، بل أن شمعون بیرس قام بجولة فی أسواق العاصمة القطریة الدوحة.
ولکن إسرائیل بشقیها الیساری الصهیونی والیمین الصهیونی استغلت هذه المیوعة العربیة کی تحقق بعضا من أهدافها خصوصا فی مجال مصادرة الأراضی الفلسطینیة وإقامة المستعمرات، وقتل الأبریاء، ووجدت دعما عربیا فی حربها الغادرة ضدّ قطاع غزة.
هذه المواقف العربیة وضعت وصمة عار على جبین الجیل العربی الناهض، بالإضافة إلى تفشی الفساد وسرقة لقمة العیش من أفواهه، مما أدى إلى ثورة الشباب التی بدأت فی تونس ولحقتها مصر وهی تتوقد الآن فی الکثیر من الدول. وفجأة بدأ القادة بتقدیم امتیازات لشعوبهم ظهرت جلیا أنها رشوة أکثر منها تغییرات أساسیة، ولکن هذه الإستراتیجیة لن یکتب لها النجاح على المدى البعید، لأن مطالب الجیل الجدید لا یقتصر على تحسین مؤقت لمعیشته، بل إنه یطالب بتغییر أساسی فی حیاة دولته.
وفکرة أنه لم تبرز قیادات متمرسة تستطیع تحمل مسؤولیة قیادیة، هی فکرة غیر ناضجة، ونابعة من تاریخ قریب کون أن التغییرات التی حصلت فی بعض الدول العربیة جاءت عن طریق انقلابات عسکریة وظهور شخصیة قویة تمسک بزمام الأمور. ولکن هذا لا یعنی أن هذه الشخصیة "أو الشخصیات" غیر متواجدة الآن.
وفاجأت هذه الثورات إسرائیل، کما فاجأت القادة العرب، والغرب على حد سواء. والمطلع على وسائل الإعلام الإسرائیلیة یلاحظ التخبط الموجود لدى قادتها ومفکریها، فی محاولات من جانبهم تقویم الأمور ووضع معادلات یمّکنها من التعامل السریع مع التطورات الجاریة.
فمثلا التغییر الذی طرأ على الحدود الجنوبیة بسبب الثورة المصریة، قلب التوازن الفکری، السیاسی والعسکری لدى حکام إسرائیل. فبعد أن کان نظام حسنی مبارک حام لإسرائیل "ولا حاجة للعودة على ما کان یقدمه لها" ومعززا لاقتصادها، أصبحت الآن تتطلع إلى ضرورة وضع المزید من قواتها تحسبا من أیة مفاجآت، والترقب مستمر بالنسبة لأسعار الغاز الطبیعی المصری الذی کان یدخل حوالی تسعة ملاین دولار یومیا لخزینتها قیاسا بأسعار الأسواق العالمیة. والأسئلة التی بدأت تطرح بالنسبة لتطبیق کل بنود اتفاقیة کامب دیفید. وطبعا فکرة فتح المعابر بشکل مستمر بین الأراضی المصریة وقطاع غزة وغیر ذلک.
وتستعد إسرائیل الیوم للتعامل مع الأوضاع الجدیدة التی تحدث فی الوطن العربی. هذه الثورات لها مطالب، لا یستطیع النظام القائم فی إسرائیل تقدیمها. وبدأت براعم هذه الأفکار تظهر فی الإعلام الإسرائیلی فنقرأ مقالا یقول "سلام على السلام"" هآرتس 24/ 3/ 2011". ویقول الکاتب موجها کلامه للشعب الإسرائیلی: "قولوا مع السلامة یا هدوء. وحتى هؤلاء الذین فرحوا بالهدوء "على الحدود مع مصر وسوریا والأردن"، لن یستطیعوا أن یغمضوا أعینهم بسب الأوضاع الجاریة فی المنطقة".
والثورات الجاریة فی العالم العربی ستجبر إسرائیل التعامل مع البُعد القومی العربی، بدلا من البُعد الدینی، حیث تبین أن الأحزاب والمنظمات الدینیة العربیة، لم تلعب دورا رئیسیا فی هذه الثورات، والاحتمال أن تسیطر علیها هو إحتمال غیر وارد الآن.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS