الثلثاء 15 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

تاریخ الجماعات الیهودیة فی البلاد العربیة

 

تاریخ الجماعات الیهودیة فی البلاد العربیة

 

عبد اللطیف الحناشی

 

تعتبر الجماعات الیهودیة التی عاشت فی الدول العربیة، قبل مغادرتها، من بین أقدم العناصر التی استقرت بالمنطقة، وازداد عددها بعد هجرة جزء من یهود الأندلس إلى بعض البلدان العربیة إثر سقوط غرناطة، ثم تضاعف العدد ذاته بوصول یهود "الغرانة" بین القرنین 17 و19.

لم یشکّل الیهود فی البلاد العربیة وحدة متجانسة، فهناک الیهود الأصلیون کما هناک یهود وافدون من بلدان أوروبیة، وکانت توجد بین کل مجموعة تباینات على عدة مستویات، حتى داخل المجموعة الواحدة. ولعبت بعض العناصر من هؤلاء دورا متمیزا فی إدارة بعض الدول العربیة، وساهم الکثیر منها بدور متمیز فی الحیاة الاقتصادیة والفنیة...

وتدعم دور بعض تلک الفئات وموقعها الاقتصادی والاجتماعی بعد عملیات الاحتلال التی استهدفت أغلب الدول العربیة وتکیّف جزء منها مع التحولات التی أحدثها الاستعمار، بینما ظلّت فئات وشرائح عدیدة من الیهود على هامش تلک التحولات وکانت استفادتها محدودة.. وکان مستوى اندماج الأغلبیة من الیهود، ضمن المجتمعات العربیة متفاوتا، إذ ظلّت قطاعات واسعة منها "الفقیرة خاصة" محافظة نسبیا على تفاعلها الثقافی والاجتماعی والقیمی مع المجتمعات العربیة، غیر أن هذا الاندماج لم یرتق فی کثیر من الأحیان إلى درجة "الانتماء" إلى هذا الفضاء الجغرافی والحضاری، خاصة مع بروز التّیارات الصّهیونیّة الناشطة فی تلک الأقطار التی عملت على تغذیة هذا الواقع وتطویره بما یخدم أهدافها الأیدیولوجیة والسیاسیة..

وإجمالا تمیز وجود یهود الدول العربیة بنشاط وحیویة وساهموا بتفاوت فی إثراء الحیاة الاقتصادیة والثقافیة والفنیة والسیاسیة، ولکل تلک الاعتبارات کان هؤلاء یمثلون أحد مکونات تاریخ الکثیر من البلدان العربیة من نواح عدیدة..

وکانت العلاقة بین أفراد تلک المجموعات والسکان المسلمین فی الغالب طیبة، برغم المشاکل التی تحدث هنا أو هناک على خلفیة التعاملات الیومیة بین أفراد المجموعتین، الأمر الذی یقرّه الکثیر من یهود الدول العربیة بعد مغادرتهم، وأثبته بعض الباحثین الیهود الذین لا یترددون فی القول بأن وضع الجماعات الیهودیة فی العالم الإسلامی کان أفضل بکثیر مما کان علیه أمر الیهود فی العالم الغربی..

ولوقت غیر بعید، وتحدیدا قبل سنة 1967، کان اهتمام الکتاب والمؤرخین العرب بتاریخ تلک الجماعات محدودا لأسباب عدیدة منها عدم اهتمام المؤرخین بقضایا الأقلیات فی مجتمعاتهم، أو لعدم وعی البعض منهم بأهمیة دور تلک المجموعات ووظائفها، أو لعدم وجود المراجع والمصادر والوثائق التی تسمح بتناول موضوع معین یهم تاریخ جماعة من تلک الجماعات أو اعتقادا، من بعض المؤرخین بأن حیاة تلک الجماعات لا تسترعی الاهتمام والبحث والدراسة، وبالتالی لا یوجد ما یمیزها عن غیرها من أفراد المجتمع العربی سواء على الصعید الاقتصادی أو الاجتماعی أو الثقافی، فی حین خیّر البعض عدم الخوض فی تلک المسألة أصلا خوفا مما قد یثیره ذلک من مشاکل واتهامات سیاسیة أقلها تثبیت شرعیة وجود إسرائیل..

وبشکل عام یمکن تصنیف ما کتب عربیا من دراسات وأبحاث حول تاریخ الجماعات الیهودیة إلى نوعین:

تناول النوع الأول الأوضاع العامة لتلک الجماعات وکأنها کتلة بشریة واحدة متجانسة لا فروق بین أفرادها وفئاتها وطبقاتها من جهة، وبین الخصائص والممیزات "الاقتصادیة والسیاسیة: نوع الاستعمار طبیعة الأنظمة السائدة" التی تحکم هذه الدولة العربیة أو تلک، وخاصة الوضع القانونی للأقلیة الیهودیة فیها وحدود نشاطها ودورها.. ویظهر أن الهدف من تلک الکتابات کان بالأساس إبراز الجوانب السلبیة لهذه الجماعات فی الحیاة العربیة دون الاهتمام بما تضمن وجودها بالضرورة من جوانب إیجابیة مهما کان حجمها.. والکثیر منها کتب على خلفیة دینیة أو سیاسیة، الأمر الذی أفقدها الدقة والموضوعیة..

أما النوع الثانی من تلک الکتابات فاهتم بدور بعض الأفراد من تلک المجموعات فی النضال فی إطار الحرکة الشیوعیة العربیة وکانت تستند بدورها إلى خلفیة أیدیولوجیة فی الغالب..

بعد سنة 1967، وخاصة بعد تأسیس مرکز الأبحاث الفلسطینی التابع لمنظمة التحریر الفلسطینیة فی بیروت، وما عرفته الحیاة السیاسیة فی العالم العربی من تطورات بعد "الهزیمة" وخاصة ما عرفته إسرائیل من تحولات لجهة تزاید دور الیهود الشرقیین "السفاردیم" فی الحیاة السیاسیة وبروز مجموعات یساریة تبنت أطروحات سیاسیة جذریة ضمت مناضلین من الیهود الشرقیین "الفهود السود، منظمة ماتزبن.."، بعد کل ذلک تحرر بعض الکتاب والمؤرخین العرب وأخذ یهتم بتلک الجماعات وبتاریخها خاصة فی العراق ومصر وبلدان المغرب العربی. ورغم تواضع تلک الکتابات کمیا ونوعیا "معرفیا" غیر أنها فتحت المجال لاحقا لکتابات أعمق وأشمل ذات علاقة بالموضوع..

ومنذ أواخر الثمانینات، وبالتوازی مع التحولات السیاسیة التی عرفها العالم بما فی ذلک العالم العربی وإسرائیل وما عرفتها حقول المعرفة التاریخیة من تطور تزاید الاهتمام بتاریخ یهود الدول العربیة من قبل الباحثین والکتاب العرب والیهود والغربیین بشکل یتناسب والدور الذی لعبته تلک الجماعات من جهة، وخصائصها الاجتماعیة والدینیة والاقتصادیة فی تلک المجتمعات من جهة أخرى؛ فصدرت الکثیر من الکتب وأنجزت بعض الرسائل الجامعیة حول ذلک..

کما تأسست للغرض جمعیات داخل إسرائیل وخارجها "خاصة فرنسا والولایات المتحدة الأمریکیة" تهتم بتاریخ هؤلاء وتجمع الوثائق الخاصة بهم وتموّل الندوات والمؤتمرات وتصدر الکتب وتشجع الطلبة للبحث فی هذا الموضوع...

ورغم الطابع الأکادیمی الذی یبدو بریئا، غیر أن ارتباط تلک المؤسسات والکثیر من أفرادها بإسرائیل وبعض مراکز البحث والجامعات الصهیونیة العنصریة أفقدها استقلالیتها ونزع عن الکثیر منها ما تدعیه من حیادیة وموضوعیة.. ونتیجة لکل ذلک برزت خلال العقدین الأخیرین الکثیر من البحوث والدراسات التی تناولت أوضاع یهود البلدان العربیة لباحثین یهود صهاینة أو غیر صهاینة "على قلتهم"، یعیشون ویعملون فی أوروبا أو الولایات المتحدة الأمریکیة، بعضهم ولد وعاش جزءا من حیاته فی إحدى الدول العربیة أو هم من أسرة عاشت فی إحدى الدول العربیة ثم غادرت إلى إسرائیل فی وقت ما؛ لباحثین أوروبیین من أصول دینیة غیر یهودیة، البعض منهم متحمس للروایة الصهیونیة والبعض الآخر معارض لها على خلفیة علمیة موضوعیة، وباحثین یهود صهاینة یعیشون ویعملون فی مجال التدریس فی الجامعات الإسرائیلیة عاش البعض من آبائهم فی إحدى الدول العربیة ثم انتقل إلى إسرائیل.

وأخیرا بعض الباحثین أغلبهم معارض للروایة الصهیونیة حول تاریخ الجماعات الیهودیة فی العالم العربی، البعض من هؤلاء اهتم بنشاط الحرکة الصهیونیة فی تلک الربوع، والبعض الآخر اهتم بنشاط الیهود الاجتماعی والاقتصادی والجمعیاتی أثناء فترات مختلفة من تاریخ تلک البلدان...

وبالرجوع إلى بعض تلک الکتابات سواء عن طریق القراءات المباشرة أو عن طریق الملخصات نلاحظ أن بعضها بالرغم من طابعها الأکادیمی قد افتقدت لشروط تلک الممارسة، وذلک من عدة جوانب کاعتمادها على مراجع ثانویة واستنادها إلى منهج المغالطة والتضخیم والتهویل وعدم اللجوء إلى النسبیة فی تقدیر الأحداث وتحلیلها فی إطار سیاقها السیاسی العام أو الخاص. إذ تم مثلا تغییب دور الاستعمار فی تأجیج الخلافات بین الیهود والمسلمین، کما لا یتردد بعضها فی وصف ما حدث فی العراق سنة 1941 أو فی مصر والیمن وغیرها بـ"المذابح الوحشیة" بالرغم من أن الأمور لم تصل إلى درجة "المذابح".

کما یتم تضخیم موقف بعض الشخصیات السیاسیة العربیة النازیة فی الوقت الذی یتم التغاضی عمدا عن الکثیر من المواقف التی تعبر عن روح التآخی بین المسلمین العرب والیهود خاصة أثناء الحملات المسعورة التی تعرض لها بعض یهود الدول العربیة من قبل أنظمة الاحتلال إبان الفترة النازیة، والحال أن الکثیر من الشخصیات السیاسیة الفاعلة أو الاعتباریة أو حتى من عامة الناس کانت لها مواقف معارضة تماما للتوجهات النازیة فاحتضنت الیهود ودافعت عنهم وحمتهم من بطش القوى النازیة..

کما اعتبرت بعض تلک الکتابات نشاط الیهود بالبلاد العربیة، فی إطار الحرکة الصهیونیة، نضالا "وطنیا وتحرریا"، وهی بذلک نزعت عن هؤلاء الیهود انتماءاتهم الوطنیة إذ کان الأجدى بهؤلاء النضال فی إطار الحرکات الوطنیة فی الأقطار العربیة تعبیرا على ولائهم لأوطانهم ولیس العمل من أجل تأسیس دولة أخرى على حساب شعب آخر عربی..

کما اعتبرت بعض الکتابات الأعمال التی قام بها الیهود الصهاینة ممن کانوا یعیشون فی الدول العربیة أعمالا وطنیة بطولیة من ذلک عملیة أو "فضیحة لافون" سنة 1955 التی قام بها الموساد الإسرائیلی بتفجیر منشآت دول أجنبیة مستعیناً ببعض الیهود المحلیین للإیقاع بین حکومة الرئیس جمال عبد الناصر وتلک الدول الأجنبیة.

کما تناول اغلب هؤلاء المؤرخین هجرة یهود الدول العربیة على أساس أنها عملیة تهجیر قسری خضعت إلیها تلک الجماعات دون أن تبحث فی العوامل الأخرى المساعدة لها، من ذلک دور الحرکة الصهیونیة التی قامت بتغذیة تلک الاحداث، رغبة منها فی إشعار الیهود بأنهم یعیشون فی وضع معاد وغیر آمن، وبالتالی فإن الهجرة إلى فلسطین تمثّل الحل الأمثل لتجاوز کل تلک المشاکل وأن هجرتهم تعنی مساهمتهم فی بناء دولتهم الموعودة..

صحیح أن الکثیر من الجماعات الیهودیة فی الدول العربیة قد تعرضت عقب الحروب التی شنتها إسرائیل على العرب إلى هجومات وأعمال عنف متفرقة، لکن الصحیح أیضا أن السلطات قد أسرعت إلى تطویقها ومعاقبة الذین قاموا بها فی الوقت الذی عملت إسرائیل وبکل الطرق لتشجیع تلک الهجرة "قانون أملاک الغائبین 14/ 3/ 1950 وقانون العودة 5/ 7/ 1950" وهی القوانین التی فتحت المجال واسعا لیهود الدول العربیة لترک أوطانهم الأصلیة والالتحاق بوطن الغیر..

تبدو لنا الکتابة حول تاریخ یهود الدول العربیة شائکة وأحیانا ملتبسة یتم توظیفها غالبا لصالح الروایة الصهیونیة، والخطیر فی الأمر أن اغلب تلک الکتابات قد کتبت بغیر اللغة العربیة وهو ما یعنی توجه أصحابها للنخبة الغربیة لمزید تشویه العرب، ومن هنا تأتی مهمة المؤرخین العرب للکتابة حول الموضوع وتشجیع طلبتهم للقیام ببحوث بهدف تقدیم الصورة الحقیقیة والموضوعیة للعلاقة التی کانت تربط العرب بالیهود الذین کانوا یعیشون معهم جنبا إلى جنب.. ومن المهم أیضا ترجمة تلک الأعمال إلى اللغات الأجنبیة.

ونظرا إلى أن ذلک یتطلب جهودا وأموالا فلا بأس من أن تتبنى منظمة الالکسو مشروعا لترجمة تلک النوعیة من البحوث ونشرها وتشجیع أصحابها حتى نتمکن من إیصال روایة علمیة وموضوعیة عن تاریخ الجماعات الیهودیة فی العالم العربی...

ن/25

 


| رمز الموضوع: 143047







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)