الجمعه 11 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

جذور الدعم الأمیرکی لفکرة قیام إسرائیل

جذور الدعم الأمیرکی لفکرة قیام إسرائیل

 

فی آذار /مارس 2006 نشر الأکادیمیان الأمیرکیان جون میرشایمر من جامعة هارفارد وستیفن والت من جامعة شیکاغو دراستهما الجریئة حول اللوبی الإسرائیلی فی الولایات المتحدة (فی لندن ریفیو أوف بوکس)، والتی صدرت بعد عام على شکل کتاب. خلاصة ما قالاه فی الدراسة هو القناعة المنتشرة فی أوساط کثیرة لجهة تأثر السیاسة الخارجیة الأمیرکیة فی الشرق الأوسط باللوبی الإسرائیلی على حساب المصالح القومیة الأمیرکیة نفسها. الممیز فی الدراسة لم یکن فی مضامینها على رغم أهمیتها البالغة من ناحیة استقصائیة وإحصائیة وشمولیة بقدر ما کان فی إسمی کاتبیها وموقعیهما الأکادیمیین المتقدمین وجرأتهما على تحدی المحظور والتفکیر فی اللامفکر فیه أمیرکیا. هوجم الکاتبان بشراسة فظیعة من قبل أرکان اللوبی الإسرائیلی فی أمیرکا ودفعا ثمناً باهظاً للمواقف التی أعلناها، وانتقدا من قبل مؤیدی إسرائیل بتهمة المبالغة والتضخیم. وانتقدا أیضاً من زاویة معاکسة تماماً ومنطلقة من منظور التحلیل الإمبریالی مفادها أن إحالة الموقف الأمیرکی من فلسطین والشرق الأوسط إلى اللوبی الإسرائیلی یفترض «براءة» السیاسة الأمیرکیة من ناحیة الجوهر وأنه ما کان لها أن تتشوّه لولا تأثیر اللوبی الإسرائیلی. لکن هذه البراءة، بحسب هذا النقد (وأهمه فی هذا الصدد ما کتبه الصدیق جوزیف مسعد) غیر موجودة أساساً، فسیاسة الولایات المتحدة إمبریالیة فی الأساس لیس فقط تجاه الشرق الأوسط بل أیضاً تجاه بقیة العالم. فإذا فسّرنا السیاسة الأمیرکیة الإمبریالیة المنحازة فی الشرق الأوسط بوجود اللوبی الإسرائیلی، فکیف نفسر وجود نفس تلک السیاسة الإمبریالیة فی أکثر إن لم یکن کل بقاع العالم؟

إذن هناک سؤال کبیر وهناک إجابتان لحد الآن: السؤال الکبیر: لماذا هذا التأیید الأمیرکی المندفع والأعمى لإسرائیل والذی یتبدى فی القراءة الکلاسیکیة له متعارضا فی جوانب کثیرة منه مع المصلحة الأمیرکیة البحتة، ومتعارضاً مع جوهر القیم الأمیرکیة التی لا یکل السیاسیون الأمیرکیون من تردادها إزاء نشر الحریة ومعاداة الظلم؟ أما الإجابتان فتعیدان ذلک إلى تأثیر اللوبی الإسرائیلی، أو إلى نتاج السیاسة الإمبریالیة الأمیرکیة. لکن إزاء هاتین الإجابتین یُقدم لنا وولتر راسل مید، الزمیل فی مجلس الشؤون الخارجیة فی نیویورک، إجابة ثالثة فی مقالة مطولة نشرت فی العدد الأخیر من «فورین أفیرز» الأمیرکیة، خلاصتها أن السیاسة الأمیرکیة المؤیدة لإسرائیل هی إنعکاس لما یسمّیه «الصهیونیة الأمیرکیة» أی التأیید الشعبی والوجدانی المتجذر فی الشعب الأمیرکی لفکرة قیام إسرائیل. وهو ینفی کون تلک السیاسة ناتجة عن تأثیر جماعات ضغط یهودیة مهما بلغت قوتها. ویفصّل أبعاد وأعماق «الصهیونیة الأمیرکیة» ویرسم متوازیات بین نشوء أمیرکا وإسرائیل کدولتی مهاجرین، وکیف عمل ذلک، من ضمن أشیاء أخرى, على التماهی مع فکرة قیام اسرائیل فی الوجدان الجمعی للأمیرکیین. وتستحق هذه المقالة وقفة خاصة لما فیها من طرح وأفکار محبطة بالتأکید إذ أنها تلقی فی وجه العرب والفلسطینیین تحدیاً بالغ الصعوبة قوامه أن المشکلة لیست قائمة فی صانعی السیاسة الخارجیة الأمیرکیة أو فی نوعیة وسیاسة الإدارات المُتعاقبة وحسب، بل تکمن فی التأیید الشعبی العارم القائم على خلیط من الأساطیر الدینیة والتأملیة وحتى العنصریة لفکرة قیام دولة یهودیة فی فلسطین.

العنصر الأول الذی اشتغل ویشتغل على تشکیل الإدراک الأمیرکی العام لإسرائیل ونشوئها واستمرارها هو الرؤیة المسیحانیة التی ترى فی عودة الیهود إلى فلسطین استکمالاً للنبوءات الدینیة المسیحیة وتعجیلاً لـ «الخلاص» النهائی من جهة، وتعمیقاً للإصلاح الکالفینی الذی ألح على الروابط العقدیة بین العهد الجدید والعهد القدیم من جهة ثانیة. ویذکر مید أن مؤیدی فکرة الاعتراف بإسرائیل من مساعدی الرئیس الأمیرکی هاری ترومان فی ایار (مایو) 1948 ضمّنوا فی المرافعات التی قدموها له نصوصاً من التوراة تشیر إلى ان عودة الیهود إلى «أرض المیعاد» هی جزء من الاعتقاد الدینی.

طبعاً لم یکن الاعتراف الأمیرکی السریع بالکیان الصهیونی بعد 11 دقیقة من إعلانها ناتجاً عن مرافعات أولئک المؤیدین فحسب، بل جاء مبنیاً على أکثر من قرن من التعبئة الدینیة والوجدانیة التی قادها مبشرون ورحالة وکتاب سافروا إلى «الأرض المقدسة» وعادوا بأساطیر لا تحصى تدفع کلها باتجاه «الحتمیة الدینیة» لقیام دولة تلمّ الشتات الیهودی فی أرض المیعاد وتعید تصحیح التاریخ حیث تعود «أرض الحلیب والعسل» إلى مالکیها الأصلیین!

إذا کان ما سبق یخص الجماعات المسیحیة المحافظة فإن هناک عنصراً ثانیاً اشتغل على الجماعات المسیحیة وغیر المسیحیة، اللیبرالیة والتقدمیة، خصوصاً فی النصف الأول من القرن العشرین، یشیر إلى أن قیام إسرائیل هو حلقة ضرویة فی التقدم الإنسانی. فالیهود، بحسب هذه النظرة، تعرضوا لاضطهاد تاریخی من قبل الشعوب المختلفة، خصوصاً الأوروبیة، ولا یمکن أن یکون مشروع الحداثة الغربی والتقدم الإنسانی مکتملاً أو منسجماً مع نفسه من دون أن یرفع ذلک الظلم عن الیهود, خصوصاً بعد المحرقة النازیة. ولهذا فإن الدعم والتضامن مع إسرائیل هو دعم وتضامن مع مشروع التقدم الإنسانی بشکل عام. ولا یُناقش مید هنا النظرة العنصریة المُستبطنة فی مثل هذه الرؤیة والتی ترى التقدم الإنسانی محصوراً بالغرب الأبیض وبالیهود، حتى لو کان على حساب الجماعات والشعوب الأخرى التی ستُخلق ضدها سیرورات من الاضطهاد والظلم التاریخی بسبب حرکة «تصحیح» الظلم الواقع ضد الیهود، وهو ظلم وقع فی الفضاء الغربی ذاته وهو مسؤول عنه.

العنصر الثالث الذی اخترق المخیّلة الأمیرکیة الجمعیة فی إدراکها لمشروع قیام إسرائیل هو تماهی صورة وسیرورة قیامها مع صورة وسیرورة قیام الولایات المتحدة. فهناک اولاً الطهرانیة البروتستانیة المسیحیانیة الهاربة من جحیم الاضطهاد الکاثولیکی فی القارة الأوروبیة، والباحثة عن إنشاء کیان مثالی فی العالم الجدید. ویناظرها فی الجانب الإسرائیلی هروب یهود العالم من الاضطهادات التی تعرضوا لها إلى «عالمهم الجدید/ القدیم» لإنشاء وطن مثالی. وهناک ثانیاً صورة جماعة المستوطنین الذی یأتون من أقاصی الأرض لإعمار وتخضیر الصحاری القاحلة والجرداء والخالیة من السکان. وعملیة وفکرة الاستیطان تقع فی جوهر النفسیة الأمیرکیة المؤیدة لإسرائیل، لأن الاستیطان وإقامة المستوطنات والمستوطنین وکل ما له علاقة بهذه العملیة الاستعماریة والعدوانیة فی فلسطین له دلالات وإیحاءات إیجابیة فی المخیلة الأمیرکیة: إنها عملیة بث الروح والاخضرار فی الأراضی الیباب.

العنصر الرابع, وله علاقة بالنقطة السابقة، یکمن فی أن تأیید إسرائیل التوراتیة وفّر ذخیرة هائلة من التبریرات لکل الجرائم الکبرى التی قامت بها أمیرکا الاستیطانیة من لحظة قیامها، عن طریق خلق الاقتناع الذاتی بأن أمیرکا هی فی الواقع إسرائیل الجدیدة، وأن قیامها کان معجزة ومن الضروری إبادة المعوقات التی اعترضت قیام هذه المعجزة. لهذا کان من غیر الممکن تفادی إبادة الیهود الحمر، کما فعلت إسرائیل القدیمة عندما عادت إلى أرض کنعان وأبادت الکنعانیین، وکما تفعل إسرائیل المتجددة فی أرض فلسطین عندما تقتل الفلسطینیین. ولذلک فإن دور الحاضنة والراعی الذی لعبته وتلعبه الولایات المتحدة إزاء إسرائیل یقود فی الواقع، وکما یجادل مید، إلى تعزیز شرعیة الولایات المتحدة ذاتها فی وجدان أفرادها، فهی عملیة إعادة ترسیخ الشرعیة الأمیرکیة وقیامها على أنقاض من سبقوها، لأنها مضاهیة لقیام إسرائیل التوراتیة.

العنصر الخامس هو التأیید الکبیر الذی حظیت به فکرة قیام إسرائیل من قبل الأمیرکیین الأفارقة والأمیرکیین الیساریین من الربع الأول فی القرن العشرین وحتى حرب 1967 على أقل تقدیر. فالیهود «المضطهدون» بالنسبة الى الأمیرکیین السود یشارکونهم فی الاضطهاد لکن على أیدی مضطهدین مختلفین. فإن کان الیهود قد اضطُهدوا فی أوروبا خصوصاً فی ألمانیا، وهبّت الولایات المتحدة لنجدتهم، فإن السود یُضطهدون على أیدی الولایات المتحدة نفسها، وحری بها أن تتوقف عن ذلک إن کانت منسجمة مع نفسها. وعلى أرضیة هذا الجدل نشأ تحالف قوی بین الطرفین استخدمه کل طرف لمصالحه وطروحاته الخاصة. أما الیساریون الأمیرکیون فقد رأوا فی فکرة الاستیطان والکیبوتسات تجسیداً للأفکار الاشتراکیة وترقیة لقیمة العمل والمساواة بین الأفراد.

العنصر السادس المشکل للرؤیة والإدراک الأمیرکی العام لإسرائیل هو التضامن مع الدولة الیهودیة الصغیرة المهددة دوماً من أعدائها الذین لا یکلون عن محاولة تدمیرها. وهذا التصویر الدائم لإسرائیل بأنها «داوود الصغیر» المهدد من جحافل «غولیات» الضخم الذی یرید القضاء علیه وفرّ الخزّان الهائل للتأیید الشعبی الأمیرکی لإسرائیل، واستثمرته إسرائیل فی إعلاء مسألة الأمن فی السیاسة والاستراتیجیة ومفاوضات السلام وکل ما له علاقة بالعرب والفلسطینیین، إلى أن أصبح «الأمن» طموحاً لا یمکن تحقیقه بسبب مداومة إعلائه. یتناغم مع التضامن على قادة الخطر والتهدید شعور بالإعجاب والفخر بقوة «داود» الصغیر الذی استطاع هزیمة جیوش العرب فی حروب متتالیة. وهنا یدخل عنصر هامشی آخر فی تأیید إسرائیل وهو کونها قوة باطشة قادرة على دحر أعدائها من دون تردد، خصوصاً بعد حرب 1967، وهی تقدم صورة لما یجب أن تکون علیه أمیرکا التی هُزمت فی فیتنام ولم تتمثل صورة إسرائیل الجدیدة التی لا تُهزم.

( الدراسة من اعداد الأکادیمی والباحث الأردنی الفلسطینی خالد الحروب )

م/ن/25

 


| رمز الموضوع: 142770







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)