الجمعه 11 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

دروس النکبة والصّراع المستمر مع إسرائیل

قبل أیام کانت ذکرى مرور ستین عاما على النکبة، غیر أن عمر المشروع الصهیونی نفسه یزید على مئة وعشرة أعوام، لکنه مع ذلک لم یکتمل بعد ولا تزال محاولات استکمال مقوّماته على الأرض مستمرة لم تتوقف قط. فما معنى ذلک؟ معناه أن الصهاینة کانوا یدبّرون ویخطّطون حین کنّا نحن غافلین وشاردین. وحین أفقنا انتبهنا إلى وقع الصدام الذی سعوا له وساقونا إلیه. ولأنهم کانوا أکثر جهوزیة واستعدادا کان من الطبیعی أن یتفوقوا علینا ویستولوا على أرضنا ویشرّدوا أهلنا. وبینما أصبنا نحن بالإحباط وفقدان الثقة بالنفس، منحهم الانتصار ثقة بالنفس وإصرارا على مواصلة المسیرة إلى أن یکتمل مشروعهم الذی لم نکن قد تمکّنا بعد من سبر أغواره أو استیعاب أبعاده أو فهم أهدافه ومرامیه الحقیقیة. وعندما تکرر الصّدام، وکان لا بد أن یتکرر وبمبادرة منهم فی معظم الأحیان، رحنا نتصرف وکأننا نفاجأ فی کل مرة بطاقة العدوان لدیهم. وعندما قررنا أن نغیّر سلوکنا ونتودد إلیهم، اتقاء لشرّهم أو رغبة فی حقن الدماء والتفرغ للبناء، لم یصدقونا وظلوا متشککین فی نوایانا وراحت مطالبهم بمزید من «إجراءات بناء الثقة» تزداد وقاحة ولا معقولیة یوما بعد یوم. وبدلا من زجرهم وتذکیرهم بالمواثیق المبرمة بیننا وبینهم اکتشفنا أنه لم یعد أمامنا من خیار سوى الاستجابة لمطالبهم، ربما خوفا منهم أو طمعا فی کسب ود حلفائهم، فسخروا من خنوعنا وراحوا یستهزئون بنا، وها نحن، وبعد أکثر من ثلث قرن من محاولة التعایش معهم، لا یزال الخوف من مکرهم یسیطر على عقولنا وقلوبنا ویکاد یحوّل أحلامنا إلى کوابیس.

فی الذکرى الستین لقیام دولتهم، أصبح لزاما علینا أن نطرح على أنفسنا سؤال النکبة وما إذا کنا قد استوعبنا دروسها وتأمّلنا موقعنا على خریطة صراع معهم لم ینته بعد ومن الواضح أنه سیستمر معنا لسنوات طویلة قادمة. وفی تقدیری أن استخلاص الدروس الصحیحة مما فات والاستعداد الجاد لما هو آت یتطلبان منا أن نتفق بادئ ذی بدء على عدد من الحقائق لا یجوز الاختلاف حول مضامینها أو دلالاتها:

الحقیقة الأولى: أننا استنفدنا کل الوسائل فی التعامل مع إسرائیل، لکننا لم نتقن أیاً منها. فعلى الصعید العسکری خضنا فی مواجهة إسرائیل ثلاث حروب تقلیدیة، أعوام 1948 و1956 و1973، وحرب استنزاف على الجبهة المصریة، بین عامی 1968 و1970، وحروب عصابات على الساحات الفلسطینیة والأردنیة واللبنانیة فی مراحل وحقب مختلفة. وعلى الصعید السیاسی تفاوضنا مع إسرائیل سرّا وعلنا، ثنائیا وجماعیا، وأبرمنا معها اتفاقیات کامب دیفید (1978) وأوسلو (1993) ووادی عربة (1994)، وعقدت مؤتمرات دولیة فی مدرید (1991) وفی أنابولس (2007). ورغم ذلک کله لم نتمکن من حسم الصراع أو تحقیق السلام، وفی ما عدا استثناءات محدودة، أبرزها ما قام به «حزب الله» عامی 2000 و2006، کانت کفة إسرائیل هی الأرجح سواء فی ساحات القتال أو حول موائد المفاوضات، ولیس لذلک کله سوى معنى واحد یفصح عن وجود خلل بنیوی فی طریقة الإدارة العربیة للصراع علینا أن نکتشفه ونعالجه. یلفت النظر هنا أن ساحات الحروب وموائد المفاوضات وحملات العلاقات العامة، لم تنحصر فی مکان دون آخر وإنما شملت الجمیع: من فلسطین إلى تونس، ومن موریتانیا إلى سلطنة عمان. وفیما عدا حالات قلیلة جدا لم یکن هناک أی تنسیق بین العواصم أو إدارة مشترکة للصراع.

الحقیقة الثانیة: کانت إسرائیل، فی معظم جولات الحروب والمواجهات، هی الطرف المبادر والبادئ بالتحرش والعدوان. فقبل «النکبة» وأثناءها جرت عملیات استیلاء بقوة السلاح على أراض فلسطینیة، وکان للمیلیشیات الیهودیة المسلحة حضور وتواجد کثیفان على الأرض الفلسطینیة مکناها من ممارسة نشاطها الإجرامی تحت سمع وبصر ورقابة عین الانتداب الساهرة، ومن أن یکون لها السبق فی ابتداع کل وسائل وأشکال الإرهاب: من اغتیالات وقتل ممنهج وترویع للآمنین وعملیات تطهیر عرقی أجبرت مئات الألوف من الفلسطینیین على ترک أملاکهم وقراهم أثناء حرب 48. أما فی مجالات التفاوض والبحث عن تسویة بالوسائل السیاسیة والدیبلوماسیة فتسابقنا نحن العرب فی طرح المبادرات وکنا الأکثر استعدادا لتقدیم التنازلات، ولم یکن لذلک سوى معنى واحد وهو افتقادنا لزمام المبادرة فی إدارة الصراع، سلما وحربا، والاکتفاء فی معظم الأحیان بسیاسة ردة الفعل، وهو أمر یتعین أن نعالج أسبابه ودواعیه.

الحقیقة الثالثة: کانت لإسرائیل دوما استراتجیة واضحة فی إدارة الصراع مع العرب على الصعیدین العسکری والسیاسی، فعلى الصعید العسکری بنت إسرائیل استراتیجیتها انطلاقا من قناعة بأن جمیع الدول والشعوب العربیة تشکل مصادر تهدید فعلیة أو محتملة، حالیة أو مستقبلیة، ومن ثم فعلیها تحقیق تفوق عسکری کاسح على کل الدول العربیة مجتمعة، وأن تکون جاهزة دوما لخوض حروب بالتزامن على أکثر من جبهة، والسعی لامتلاک ترسانة من السلاح النووی وما تیسر من أسلحة الدمار الشامل واستخدامها کوسائل للردع کلما استطاعت إلى ذلک سبیلاً، أما على صعید السیاسی فتعاملت إسرائیل مع العرب وکأنهم ملوک طوائف وقبائل، وبالتالی سعت للتفاوض مع کل قبیلة على حدة ورفضت التفاوض الجماعی معهم، لکن الأهم من ذلک کله أن المفاوضات بالنسبة إلیها کانت مجرد وسیلة لزرع التناقضات والخلافات وتشتیت الصف العربی، أکثر منها وسیلة للتوصل إلى تسویة سلمیة حقیقیة للصراع، ولذا بدا سقف مواقفها متحرکا باستمرار. فالحدود الواردة فی قرار التقسیم بدت عند صدوره مقبولة کأساس للتسویة، لکنها لم تعد کذلک بعد حرب 1948، وحدود هدنة 1949 بدت مقبولة کأساس للتسویة قبل حرب 1967 لکنها لم تعد کذلک بعدها، أما الموقف من اللاجئین الفلسطینیین فلم یتغیر قط وظل معاندا ورافضا لأی مسؤولیة إسرائیلیة عن المشکلة! معنى ذلک أن إسرائیل کانت تعرف دائما ما ترید أما نحن فلم نعرف أبدا ما نرید، وهو أمر یتعین تدارکه وعلاج أسبابه.

فی ضوء هذه الحقائق الثلاث، والتی أتصور أنها تعتمد على واقع ومعطیات مجرّدة ولیس على تحلیلات أو رؤى أیدیولوجیة وبالتالی لا یتعین أن تکون محلا لجدل أو خلاف أو تشکیک، یمکن استخلاص وعرض مجموعة من الدروس المستفادة، وذلک على النحو التالی:

الدرس الأول: أنه لم یعد هناک شعب أو دولة عربیة خارج دائرة الصراع مع إسرائیل، فالکل یقع داخل دائرته ولا أحد یقف أو یملک أن یقف خارجه، ومعنى ذلک أن الصراع کان ولا یزال وسیظل صراعا عربیا إسرائیلیا ولیس فلسطینیا إسرائیلیا. صحیح أن صراع إسرائیل مع الفلسطینیین یختلف عن صراعها مع غیرهم من العرب، لکن الاختلاف هنا فی الدرجة ولیس فی النوع، فکلما ابتعدنا عن خط المواجهة وعن دول الطوق کلما قلّت درجة حدة الصراع واختلفت بالتالی مقوماته ومتطلباته، لکن المؤکد أن نجاح إسرائیل فی فرض شروطها للتسویة على الفلسطینیین وبقیّة دول الطوق یقربّها خطوة خطوة من دول عربیة أخرى تتحول رویداً رویداً إلى دول مجاورة لإسرائیل الکبرى والمتوسعة دوما، وبالتالی لن تستطیع أن تفلت فی النهایة من القبضة الإسرائیلیة. صحیح أنه من المستبعد أن تقدم إسرائیل على احتلال هذه الدول عسکریا، لکنه لیس من المستبعد على الإطلاق أن تفرض علیها نمطا محددا من السلوک الخارجی وأن تتدخل فی شؤونها الداخلیة تحت دواعی الأمن و «التطبیع». ولأن استراتیجیات إدارة الصراع المنفرد مع إسرائیل فشلت فشلاً ذریعاً ولم تحقق أی مصلحة لأیة دولة عربیة فبات من الضروری والملحّ جدا بلورة استراتیجیة عربیة موحدة لإدارة الصراع مع إسرائیل تحدد فیها الأولویات وتوزع فیها المسؤولیات والأدوار بکل دقة ووضوح وعدالة.

الدرس الثانی: على هذه الاستراتیجیة أن تکون قادرة على حشد وتعبئة الطاقات والإمکانات المتاحة کافة، وأن تجمع بین الوسائل العسکریة وغیر العسکریة، التقلیدیة منها وغیر التقلیدیة، وأن تکون هناک قیادة مؤسسیة للعمل العربی المشترک قادرة على تحویل هذه الاستراتیجیة إلى سیاسات وبرامج قابلة للتطبیق على الأرض وتعتمد منهج إدارة الصراع بدیلا عن حلّه أو حتى تسویته، وذلک لسبب بسیط وهو أن إسرائیل لیست جاهزة الآن أو ناضجة لحلّ شامل أو حتى لتسویة عادلة، ولن تکون جاهزة لمثل هذا الحلّ أو التسویة فی المستقبل إلا إذا اضطرت لذلک. فجوهر منهج إدارة الصراع یدور حول دفع الخصم لتسویة تقوم على توازنات قوة حقیقیة ولیست وهمیة.

الدرس الثالث: یتعلق بالمرجعیة المحددة لسقفها السیاسی. فلکی تکون الاستراتیجیة العربیة الموحدة لإدارة الصراع مع إسرائیل فعّالة یتعین علیها أن لا تستبعد ابتداء سعیها لتحقیق تسویة سیاسیة شاملة، لکن مرجعیة وآلیات هذه التسویة، والتی یتعین أن تقبلها إسرائیل کشرط مسبق للدخول معها فی أی مفاوضات، یجب أن تکون محددة وواضحة منذ البدایة وأن تقوم على أسس ورکائز سیاسیة ولیست دینیة. وفی تقدیری أنه یتعین على العالم العربی أن یخیّر إسرائیل بین بدیلین: الأول ینطلق من المبادرة العربیة، ولکن بعد تطویرها، لتشمل العناصر التالیة:

1 ـ الانسحاب من کل الأراضی العربیة المحتلة، بما فیها القدس الشرقیة، وعودة القوات الإسرائیلیة إلى خط الرابع من حزیران على جمیع الجبهات، وقیام دولة فلسطینیة مستقلة فی حدود 1967 لها نفس حقوق وواجبات الدولة الإسرائیلیة.

2 ـ قبول إسرائیل لمسؤولیتها عن مشکلة اللاجئین والموافقة على عودتهم من دون أی تحفظات وتعویضهم عن أملاکهم ومعاناتهم.

3 ـ التزام إسرائیل بحقوق الفلسطینیین الذین یعیشون على أرضها التزاماً کاملاً وتقدیم الضمانات الکفیلة بعدم المساس بهذه الحقوق.

4 ـ إعلان إسرائیل دولة لکل مواطنیها من دون تمییز، ولیس لکل یهود العالم، وإعادة النظر فی حق العودة بحیث یقتصر على کل من سبقت له الإقامة على أرض فلسطین التاریخیة، بصرف النظر عن دینه أو لونه أو عرقه.

أما البدیل الثانی: فیتبنى حلّ الدولة الموحدة التی یتعایش فیها الجمیع استنادا إلى حقوق المواطنة، وسبق لنا أن نشرنا مقالاً على هذه الصفحة أوضحنا فیه تفاصیل رؤیتنا لهذا الحل، والذی نعتقد أنه ینطوی على مزایا عدیدة أهمها:

1 ـ أنه یشکل مخرجاً أکثر عقلانیة وأقل تکلفة من المأزق الراهن الذی وصلت إلیه عملیة التسویة.

2 ـ أنه یتسق مع الشعارات اللیبرالیة والدیموقراطیة المطروحة رسمیاً فی الغرب بل وفی إسرائیل نفسها، وبالتالی یمکن أن یجد له صدى قویا یساعد على حشد وتعبئة قوى نافذة وراءه.

3 ـ أنه یسهم فی طرح صیغ مبتکرة للتغلب على معضلات بدت حتى الآن غیر قابلة للتسویة، مثل قضیتی القدس واللاجئین، وعلى قطع الطریق أمام عنصریة صهیونیة قد یؤدی انتصارها إلى تمهید الطریق أمام زحف قوى ظلامیة متربّصة تدّعی أنها الأقدر على الصمود فی المواجهة لأنه «لا یفلّ الحدید إلا الحدید».

4 ـ أنه یفتح الطریق أمام تحوّلات دیموقراطیة باتت مطلوبة بإلحاح للحیلولة دون تفتت المنطقة ولإطلاق عملیة تنمیة حقیقیة فیها.

قد یرى البعض فی الدروس المستفادة والبدائل المطروحة لتغییر النهج الحالی تحلیقا فی عالم مصنوع من الخیال، لکننا بتنا فی أمسّ الحاجة إلى خیال ینقذنا من مصیر موحش ینتظرنا إذا استمرت السیاسات الراهنة دون تغییر.

(المقال بقلم حسن نافعة)

ص/ن/25

 


| رمز الموضوع: 142742







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)