راشیل کوری شهیدة على مذبح فلسطین
قتلت راشیل وهى فى 23 من عمرها وذلک یوم 16 مارس 2003 بواسطة جراف من نوع کاتربیلر D9 ، وهى عربة ضخمة صنعت خصیصا لهدم المنازل. کان والدها قبل ثلاثة عقود من الزمن یقود جرافات الفیتنام فى خدمة الجیش الأمریکی. أما موتها فکان هو الأول فى سلسلة أعمال لقتل الغربیین فى غزة خلال ربیع 2003، عندما کانت الحرب تدور رحاها فى العراق: البریطانى توم هورندال، 22 سنة، الذى أطلقت علیه النار یوم 11 أبریل، ثم بریطانى آخر هو المصور جیمس میلر، 34 سنة، وقد أردى قتیلا فى 16 مایو . أما هى وهورندال فکان ناشطین من أعضاء حرکة التضامن الدولیة، وهى منظمة تأسست لدعم المقاومة الفلسطینیة السلمیة ضد الاحتلال الإسرائیلی. وهکذا قتلت راشیل قبل یومین فقط من بدء العدوان على بغداد، عندما کان العالم فى جلّه یتجه بأنظاره وجهة أخری.لقد أصبحت الآن شهیدة من شهداء الفلسطینیین وإحدى ضحایا انتفاضتهم؛ واجهت الجیش الإسرائیلى العتید .
أثارت وفاة راشیل کوری، ناشطة السلام فی الثالثة والعشرین من العمر قُتلت أثناء اعتراضها على عملیة قام بها الجیش الإسرائیلی فی غزة، ردود فعل من عائلتها وأصدقائها وأساتذتها تعرب عن الإعجاب بها.
وکانت کوری، وهی طالبة فی کلیة إفرغرین ستیت کولدج فی أولمبیا، بولایة واشنطن، أول ناشطة سلام تقتل خلال فترة العامین ونصف العام الماضیة من القتال بین الإسرائیلیین والفلسطینیین.
وقد قال شهود عیان إن جرافة عسکریة إسرائیلیة دهستها فی السادس عشر من هذا الشهر حین کانت تقوم بهدم منزل فلسطینی فی مدینة رفح بقطاع غزة.
وقد کتب بیتر بومر، وهو أستاذ اقتصاد کان یعرف کوری فی کلیة إفرغرین، رسالة تذکاریة عنها فی السابع عشر من هذا الشهر قال فیها إنها کانت "واعیة لأخطار ومخاطر الذهاب إلى غزة"، وإنها "ألقت بنفسها تماماً فی النشاط فی سبیل حقوق الإنسان والتضامن مع الشعب الفلسطینی."
وقالت تریزا صلیبا، وهی أیضاً أستاذة فی إفرغرین، إن کوری "کانت تستعمل امتیازها کمواطنة أمیرکیة فی أن تخاطر بحیاتها."
وقال صدیق لکوری وزمیل من زملائها الناشطین، فانغ نْوین، إنها لم تکن "باحثة عن الإثارة ولم تکن لدیها رغبة فی الموت. ..کانت هناک لأنها شعرت أن باستطاعتها التأثیر وإحداث تغیر."
ونقل تقریر لوکالة أنباء أسوشییتد برس فی السابع عشر من الشهر الحالی عن والد راشیل، کریغ کوری، قوله إن عائلتها "فخورة جداً بشجاعتها وما کانت تمثله."
کما قال والداها فی تصریح لهما: "لقد أنشأنا کل أولادنا على تقدیر جمال المجتمع والأسرة الدولیین ونشعر بالفخر لأن راشیل استطاعت أن تعیش حسب قناعاتها. کانت راشیل تزخر بالمحبة والشعور بالواجب تجاه إخوتها من بنی البشر، أینما کانوا. وقد ضحت بحیاتها وهی تحاول حمایة أولئک الذین لا یستطیعون حمایة أنفسهم."
وقالت وکالة أنباء الأسوشییتد برس إن راشیل ذهبت إلى غزة فی کانون الثانی/ینایر کناشطة متطوعة مع حرکة التضامن الدولیة، وشارکت فی نشاطات للمساعدة فی التخفیف من أوضاع الفلسطینیین المعیشیة والاقتصادیة کمساعدة المزارعین فی حصد الغلال، ومرافقة الأطفال إلى المدارس، وإبقاء الطرق مفتوحة أمام سیارات الإسعاف، والقیام بأعمال احتجاج سلمیة.
وذکرت صحیفة الأولمبیان (التی تصدر فی مسقط رأس کوری) فی عددها الصادر فی السابع عشر من هذا الشهر، أن حرکة التضامن الدولیة قد أرسلت ما یصل عدده إلى ألفی ناشط من الولایات المتحدة وأماکن أخرى إلى الضفة الغربیة وغزة، وبینهم ثمانیة من مدینة أولمبیا وحدها. ویشیر موقع الویب الإلکترونی التابع لحرکة التضامن الدولیة إلى أن الناشطین یدفعون تکالیف سفرهم ومعیشتهم.
وقد قامت صحیفة الغاردیان اللندنیة (http://www.guardian.co.uk) فی عددها الصادر فی السابع عشر من هذا الشهر، بنشر بعض رسائل کوری لعائلتها وأصدقائها. وکانت قد کتبت فی رسالة لأمها مؤرخة فی السابع والعشرین من شباط/فبرایر، إن "مجیئی إلى هنا واحد من الأمور الأفضل التی قمت بها طوال حیاتی."
وکتبت کوری تقول إن نشاطها فی سبیل الفلسطینیین لم "یعد عملاً متطرفاً ...وما زلت أرید حقاً أن أرقص على صوت المطربة بات بِناتار وأن یکون لی أصدقاء شباب وأن أرسم الرسوم الهزلیة المضحکة لزملائی فی العمل." ولکننی أرید أیضاً لهذا الأمر أن یتوقف."
وکان الانتقال من الأمان والرخاء النسبی فی مدینة أولمبیا إلى رفح، المدینة التی تخضع على الدوام لحصار اقتصادی وعسکری، صدمة بالنسبة للطالبة الجامعیة الأمیرکیة، أثناء مشاهدتها ما وصفته بأنه "انتزاع خفی فی کثیر من الأحیان، ولکنه رغم ذلک مستفحل، لقدرة مجموعة معینة من الناس على البقاء على قید الحیاة، والقضاء على تلک القدرة."
وقالت إنه لا یوجد لدى الفلسطینیین فی رفح إلا القلیل، وأحیاناً لا شیء إطلاقاً، من وسائل تحصیل الرزق بعد أن تم تدمیر مصادر الدخل الاقتصادی المحتملة کمطار غزة، وبعد أن أغلقت الحدود مع مصر وحال حاجز تفتیش إسرائیلی عسکری ومستوطنة غوش قاطیف دون الوصول إلى البحر. وذکرت کوری أن ستین ألف عامل من رفح کانوا یستطیعون العمل فی إسرائیل قبل سنتین، ولکن هذا العدد قد تقلص الآن إلى ستمئة.
وکتبت کوری إلى والدتها: "ثم تأتی الجرافة وتدمر بساتین الخضار والحدائق. فماذا یتبقى للناس؟ أخبرینی إن کنت تستطیعین التفکیر بشیء. أما أنا فلا أستطیع."
ووصفت غزة بأنها "سجن لا یستطیع الناس الخروج منه."
وکتبت تقول: "إنهم لا یستطیعون حتى الوصول إلى إسرائیل لتقدیم طلبات الفیزا، ولأن البلدان التی یقصدونها لن تسمح لهم بدخولها."
کما کتبت کوری أن کونها تعیش فی غزة أدى إلى "تبنی (عائلة فلسطینیة لها) من کل قلبها"، ولکنها کانت تشعر بالذنب "لأن أکون قبلة أنظار أناس یواجهون الهلاک.
وأعربت ناشطة السلام فی کتاباتها أیضاً عن شعورها، کفتاة أمیرکیة تملک خیار العودة إلى وطنها، بأن المرء "یعی طوال الوقت أن تجربتکَ لهذا الأمر لا تمثل الحقیقة والواقع بأی شکل من الأشکال."
وأضافت: "حین أعود من فلسطین، سأعانی على الأرجح من الکوابیس وسأشعر بالذنب على الدوام لأننی لست هنا (فی رفح)، ولکننی أستطیع تحویل کل ذلک إلى مزید من العمل."
ومضت إلى القول: "ما زلت مستمرة فی اعتقادی بأنه یمکن لمدینتی، أولمبیا، أن تکسب الکثیر وان تقدم الکثیر من خلال تقریرها القیام بالتزام تجاه رفح على شکل علاقة أخویة بین المجتمعین. وقد أعرب بعض الأساتذة ومجموعات الأطفال فی رسائل إلکترونیة تبادلناها عن اهتمام بهذا، ولکنه لیس سوى أول الغیث لعمل التضامن الذی قد یتم تحقیقه."
الإسرائیلیین اعتبروها فى أحسن الأحوال، فتاة ساذجة زجت بنفسها فى وضع لم تکن تفهمه. أما بالنسبة لبعض الأمریکیین فهى خائنة، إذ ذکرت بعض مواقع الانترنت بأنه "لابد أن تحترق فى نار جهنم إلى الأبد. فهى بموتها تمثل خلاصا جیدا من فضلات خبیثة، وإنى أشعر بالغبطة لموتها".وبالنسبة للمقربین من راشیل، فإنهم تمنوا لو أنها لم تصبح ذائعة الصیت أکثر من کونها مجرد فتاة أمریکیة شقراء کانت نهایتها القتل، على حد تعبیر صدیقها السابق کولین ریز وذلک فى البرنامج الوثائقی: "موت إنسان مثالی": "إن الشخص الذى عرفته قد اختزل فى طرف طلقة رصاص… وکل ما مثلته راشیل من أشیاء، وکل فکرة عبقریة جالت برأسها وکل مشروع فنى أنجزته لیس له أهمیة ، لأنها صنعت موتها بنفسها. وقد انتحر ریز فى العام الماضی
ان الوثائق تکشف أنها کانت فتاة عادیة وغیر عادیة فى الوقت ذاته؛ فهى کانت تکتب قصائد عن قطتها وعن أصدقائها وجدتها، وعن الریح؛ وأیضا، ومنذ نعومة أظفارها کانت شدیدة الاهتمام بما یجرى فى العالم محاولة إیجاد مکان لها فیه. وکانت المواضیع الأولى سیاسیة. وإذ لم تتجاوز العاشرة من عمرها، کتبت راشیل قصیدة عن "الأطفال الذین یتعذبون فى کل مکان"، وکیف ظلت تتمنى "زوال المجاعة بحلول سنة 2000". إن حداثتها کما یقول ریکمان "تبین أنها کانت فعلا على معرفة بماهیة اللغة. وهى الذکیة ومؤلفة قصص وذات النزعة الخیالیة". کما تبدو أیضا جذابة، مهذبة وعارفة بالعالم الأرحب وموضعها فیه. وفى سن الثانیة عشرة، کتبت تقول: "أعتقد أنى کبرت قلیلا، وعلى کل حال فإن الأشیاء نسبیة، وتسعة أعوام قد تکون بطول 40 عاما. وذلک یتوقف على المدة التى یعیشها المرء".فى سنوات المراهقة، بدأت راشیل تکتب عن "النار فى بطنی" والتى سوف تصبح فیما بعد موضوعا مکررا. زارت روسیا فى رحلة فتحت عینیها على بقیة العالم الذى وجدته "خاطئا، قذرا، متهالکا ومتفخما فى الآن نفسه."
وقد شارکت والدیها وبشکل مثیر، فى الکتابة المعبرة بأسلوب جمیل عن مشاعر القلق الشائعة حول السلامة والحریة وهو ما یصبح ساخرا بجلاء فى ضوء المیتة القاسیة التى أنهت حیاة راشیل. وفى سن التاسعة عشرة کتبت إلى أمها تقول "أعرف أنى أخیفک… غیر أنى أرید أن أکتب وأن أری. وما عساى أن اکتب إن بقیت لا أبرح بیت الدمى ودنیا الأزهار التى نشأت وترعرعت فیها؟ …أنا أحبک یا أمى ولکنى أنا الآن أصبحت أکبر وأکبر خارج ما منحتنی: دعینى أقاتل هؤلاء الوحوش". إنى أحبک، فأنت من صنعنی، أنت من وهبنى الوجود".
لقد تسارع نسق التطور السیاسى لدى راشیل فى بدایة سنوات العشرین من عمرها: ذهبت إلى معهد إفرغرین الحکومى وهو عبارة عن مؤسسة جامعیة شهیرة بنزعتها التحرریة وهناک: بدأت تنتقد واقع التعبیر عن المستوى الأعلى للبشریة من خلال ما یقع شراءه من المتاجر الکبیرة الفخمة. وبعد الحادى عشر من سبتمبر انصرفت إلى النشاط الجمعیاتى وذلک بتنظیم المسیرات الداعیة إلى السلام، لکنها شککت فى جدوى ما کانت تقوم به فکتبت مرة تقول: "الناس یعرضون أنفسهم کدروع بشریة فى فلسطین وأنا أمضى کامل وقتى فى صنع الدمى الکبیرة". وعندما قررت فى النهایة الذهاب إلى الشرق الأوسط شرحت دوافعها بذلک بمنتهى الدقة: "لدى شیء کامن فى نفسى یدعونى إلى الذهاب إلى مکان ألاقى فیه أناسا یعیشون فى الجانب لآخر من حصة الضریبة التى أدفعها وتذهب لتمویل الجیش الأمریکى وسواه من الجیوش".وعندما وصلت راشیل إلى رفح فى قطاع غزة "تغیر نسق الکتابة لدیها بشکل مثیر، إذ أصبح لدیها وقت أقل للتفکیر، لکن مع ذلک، بوسعک أن تشعر بخوفها المتزاید".
وکانت الرسائل التى بعثت بها من غزة قویة، مکثفة معبرة عن تجربة عمیقة. وحین وصولها إلى القدس هالتها رؤیة نجمة داود المرسومة بالمرشة على الأبواب فى القسم العربى من المدینة العتیقة: "لم یسبق لى أن رأیت هذا الرمز مستعملا بهذا الشکل : فأنا معتادة على رؤیة الصلیب مرسوما ومستغلا بکیفیة تذکر بالاستعمار".وفى غزة حملت جثمان رجل قتیل على نقالة الموتی، بینما کان الجیش الإسرائیلى یطلق الرصاص أمامها، ولکن نشاطها کان فى الغالب یجد الحمایة من خلال البقاء کامل اللیل داخل منازل العائلات المتواجدة على خط المواجهة من أجل التصدى لعملیات هدمها، والوقوف لحمایة من کانوا یستخرجون الماء عند بئر فى رفح خوفا من تعرضهم لإطلاق النار علیهم، "فتکون قریبة منهم بما یکفى لترد عنهم تناثر الرکام على وجوههم".
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS