حصار غزة.. خمس إضاءات من بحر الظلمات!!
أثار حصار غزة مضاجع کل عروبی مسلم غیور على دینه ووطنه السلیب, وحُصرت الأنفس فی حناجرها بذلک الحصار الغادر، کما لو أنها تتنسم الهواء من سم الخیاط, وأطبقت على القلوب أقفاصها وکأنها فی سجن مظلم کئیب, وأظلمت على النفوس جوانبها ولکأنها غارقة فی بحر من الظلمات بعضها فوق بعض.
ومن بین تلک الظلمات التی تسوق النفس البشریة إلى حافة الیأس تتفجر ینابیع الأمل, ومن رحمها تخرج أنوار الصباح العلویة التی تبدد تلک الظلمات الأرضیة التی أرادت "إسرائیل" أن تفرضها على سکان القطاع, فغرقت هی حتى أذنها فی قاعها.
وهنا نتوقف عند مقتطفات من تلک الاضاءات التی خرجت من رحم الظلمات المفروضة على الأهل فی قطاع غزة.
1ـ سراب السلام وأوهامه
من یرکض نحو السلام, یرکض وراء سراب وأوهام, فما کان حصار غزة وتجویع أهلها ومنع الإمدادات عنها إلا وحرارة المصافحات والقبلات بین رام الله وتل أبیب لم تبرد بعد..
فهذا الحصار وهذه الإجراءات الهمجیة الصهیونیة توحی بأن من یرکض نحو السلام, یرکض وراء سراب وأوهام, فما کان حصار غزة وتجویع أهلها ومنع الإمدادات عنها إلا وحرارة المصافحات والقبلات بین رام الله وتل أبیب لم تبرد بعد, والحدیث عن دولة فلسطینیة ولیدة بنهایة العام ملئ الآذان عن آخرها, سواء من قبل الرئیس الأمریکی جورج بوش أو رئیس الوزراء الإسرائیلی إیهود أولمرت وتبعهما رئیس رام الله محمود عباس(أبو مازن).
فقطار ما یسمى بالسلام الذی غادر محطته الأولى منذ ما یزید عن خمسین عامًا ما زال یراوح مکانه, وما یزداد إلا وهنًا على وهن وضعه الذی بدأ به بعدما بدا تمامًا أن الخصم لا یبالی باتفاقیات ولا معاهدات رنانة من مدرید إلى أوسلو إلىأانابولیس وغیرهم الکثیر.
وإزاء هذا الفشل الذی یعتری مسار الاستسلام تنتزع المقاومة والجهاد الفلسطینی الحقوق من فم العدو الإسرائیلی.. فما ترکت "إسرائیل" غزة ولا الضفة إلا تحت وقع الضربات القاسیة التی تلقتها من فصائل المقاومة, وعلى إثرها رأت الانفصال عنهما مغنمًا, ولم یکن لصریر الأقلام على وقع الأوراق التفاوضیة نصیب فی دفع "إسرائیل" إلى الجیتو مجددًا.
فهذه المحنة التی یمر بها القطاع من ثنایاها ندرک أن کل اقتراب مع مشروع سلام مع "إسرائیل" هو فی حقیقته شروع فی الاستسلام والتفریط فی ثوابت القضیة, بینما یبقی مشروع الکفاح ضد الاحتلال هو الغرس الذی تمتد جذوره فی قلب وضمیر کل فلسطینی وعربی حر أبی عصی على الاستئصال والمؤامرات المدبرة لیل نهار وسیؤتی حصاده حتمًا بعد حین.
2ـ الإرهاب الإسرائیلی یحتضر
الآلة الإسرائیلیة الغاشمة استعارت کل ما یمکنها من قسوة وحشدت کل أدواتها القمعیة وتفکیرها التکتیکی والاستراتیجی لترکیع الشعب الفلسطینی على العموم وأهل غزة الباسلة على الخصوص وقد فشلت کل محاولاتها وتجاربها لنیل هدفها, ووقف شعب غزة مواقفه البطولیة المعهودة والمشهودة حتى فجر الخلافات فی الداخل الإسرائیلی عن الجدوى من تلک العملیات الإرهابیة والإیغال فی سفک الدماء الفلسطینیة.
إن القتل غیر المجدی للفلسطینیین والذی یتفاخر به جهاز الحرب الإسرائیلی یحدث فقط لإرضاء الرأی العام, فی حین أن الصراع والکفاح العنید والطویل للحریة للفلسطینیین لا یمکن أن یدحر بالقوة..
فهذه صحیفة هاآرتس (21/1) تعبر عن الفشل الذی یلحق بإستراتیجیة "إسرائیل" فی مواجهة حرکة حماس وغیرها من الفصائل المجاهدة فتقول: إن القتل غیر المجدی للفلسطینیین والذی یتفاخر به جهاز الحرب الإسرائیلی یحدث فقط لإرضاء الرأی العام, فی حین أن الصراع والکفاح العنید والطویل للحریة للفلسطینیین لا یمکن أن یدحر بالقوة, کما أن التطلع إلى عملیة عسکریة کبیرة فی غزة کما یتحدث عنه الجنرالات والمحللون المنادون بالقتال یبعث على الغضب.. هذه العملیة بدأت منذ مدة من الزمن ..و قتلنا خلالها أکثر من 800 فلسطینی خلال عامین، ولشدة الفزع والأسف هناک من یتفاخر فی ذلک.. فما الذی قمنا بحله من خلال ذلک؟ .. إن القتلى من مسلحین وغیر مسلحین أدوا إلى زیادة التصعید فقط، ومقابل کل کائن بارز فی الجهاد ومقابل کل مطلق للقسام یستشهد یظهر على الفور سبعة آخرون.
فإسرائیل استخدمت کل آلات البطش مع الفصائل ومع الشعب واغتالت الزعماء السیاسیین والمجاهدین وحاصرت القطاع وقطعت الإمدادات وکل ذلک لم یفلح مع ذلک الشعب المناضل, فماذا عساها أن تفعل بعد ذلک؟!
إن عنوان الفشل للمواجهة وللإستراتیجیة الإسرائیلیة قد تولد تلقائیًا من رحم هذا الظلم والظلام الذی فرضته على غزة ولم یفلح فی إذلالها ولا خضوعها بل ینبعث وقودًا ونارًا یحرق أطراف الکیان ومستوطناته التی تئن وتستغیث من وقع القسام ولا مغیث لها.
3ـ حماس ومعرکة البقاء
فمنذ أن تمکنت حرکة حماس من الانفراد بإدارة الأوضاع فی قطاع غزة فی یونیو الماضی واستمرت الحرب علیها من قبل "إسرائیل" عسکریًا باستهداف کوادرها, بینما وقف العالم الغربی والسلطة فی رام الله وبعض القوى الإقلیمیة موقف المؤید للحصار المفروض على غزة بهدف إسقاط الحرکة وتألیب الشارع الفلسطینی الداخلی علیها.
وجاءت تلک الظلمات الأخیرة کمحور ثالث یهدف لإقصاء الحرکة عسکریًا وسیاسیًا من خلال دفع أهل غزة لرفضها وتحمیلها مسئولیة ما یحدث.. وفشلت الإستراتیجیة الثلاثیة الأبعاد وبقیت حماس صلدة قویة فی وجه الأعاصیر الهوجاء بل وانتزعت من الجمیع اعترافًا صریحًا تارة وضمنیًا مرة أخرى بأنه لا یمکن بحال تجاوزها فی الحرب أو السلم وأنها الذراع الأقوى فی الساحة عسکریًا وشعبیًا.
فهذه صحیفة الدیلی تلجراف (24/1) التی علقت على الحصار والعملیات العسکریة الإسرائیلیة الأخیرة بقولها إنها لم تأت بأی نتیجة على الإطلاق، مؤکدة أن حماس کطرف فی المعادلة، لم یعد من الممکن تجاهلها.
والجاردیان (24/1) تشارکها ذات الرأی, حیث صرحت فی حدیثها عن الحصار الغاشم وقوة التماسک والالتفاف حول حماس بقولها: "إذا کان ثمة إمکانیة تسویة، فستکون حماس لا فتح هی الطرف الفلسطینی فی هذه التسویة".
وحقیقة لابد من الاعتراف بها أن قوة حماس لیست فقط نابعة من ذاتها بل من التفاف الشارع حولها کونها تعبر عن طموح شعب یهوى الحریة والکرامة ویرفض لقمة عیش ممزوجة بماء الذل, بل یستسیغ الموت عذبًا فراتًا, ویشتهیه إن کان ثمنًا لحریته واسترداد مقدساته.
فهذه المحنة والصمود الشعبی فی مواجهتها والالتفاف المستمر حول حماس یؤکد أن الحرکة هی نبض القلب لهذا الشارع والمعبر عن طموحاته وأحلامه وسبیله للوصول إلى هدفه ومبتغاة مهما علت أصوات المستسلمین.
4ـ الإرادة الشعبیة الغالبة والمحرکة
وحقیقة لابد من الاعتراف بها أن قوة حماس لیست فقط نابعة من ذاتها بل من التفاف الشارع حولها کونها تعبر عن طموح شعب یهوى الحریة والکرامة ویرفض لقمة عیش ممزوجة بماء الذل..
ففی الوقت الذی تخاذلت فیه المؤسسات الرسمیة والجهات النافذة سیاسیًا فی العدید من الدول کانت الهبة الشعبیة لکسر الحصار فی کل الدول العربیة والإسلامیة بلا استثناء تعید التذکیر بمرکز القوة فی الأمة, وأن الشعوب العربیة المسلمة لا تشغلها حیاتها المعیشیة وهجمات الغلاء المستعرة عن الوقوف إلى جانب الأشقاء الفلسطینیین فی المحنة.
فهذه المحن والابتلاءات التی یتعرض لها شعب فلسطین أو العراق أو غیرهما هی فی حقیقتها وقود یُشعل جذوة الکراهیة فی قلوب الشعوب المسلمة للظلم الواقع علیها, وینبت فی نفوسها ونفوس أبنائها غیظ دفین ینتظر لحظة مواتیة ینفث فیها ما تجرعه من مرارة على مر تلک السنوات العجاف.
فوحدة الأمة وتلاحم الإرادات الشعبیة فی مصر وموریتانیا والمغرب وترکیا والأردن وغیرها من بلد العرب والمسلمین ترد سهام التفتیت ومخططات التفرقة ومؤامرات غرس الفتن فی نحر من قد أرسلها..فهی لا تعرف طریقها إلى الشعوب العربیة المسلمة وإن ترکت بعضًا من بصماتها على القیادات السیاسیة فانقلبت معولاً یهدم فی هذا الصرح الشامخ الأبی على الانکسار أو الخضوع.
تلک الإرادة الشعبیة المشتعلة والمتفجرة من بحر الظلمات المفروض على غزة إنما ترسل إشارات متتالیة أن شباب الأمة برکان ثائر غاضب, وإن حالت الوضعیات السیاسیة والمجتمعیة أن یفعل, فهو ما زال یملک الکلمة القویة والوقفة المعترضة.
5ـ وحدة المصیر
إن تلک الحشود التی کانت فی مقدمتها الحرائر الفلسطینیات وعبرت الحدود المصطنعة وکسرت الحواجز المتوهمة بین الأمة الواحدة تؤکد أن اللحمة بین العرب والمسلمین أقوى من ذلک الصنیع الزائف, وان جغرافیتها وتاریخها الذی تحفظه ذاکرتها جیدًا یصفع تاریخ "سیکس بیکو" ویرکله إلى حیث مکانه اللائق به تاریخیًا.
إن جغرافیة مستحدثة تستلهم الماضی فی رؤیتها وتطلعاتها صنعتها تلک الأحداث لتؤکد أنه لا حدود بین العرب والمسلمین, فی عالمنا العربی, وأن مصر والأردن هما عمق لفلسطین ومرجعیة شعبها وقت العوز والحاجة, بقوة الارتباط وعمق العلاقات رغم أنف المعاهدات التی وقعت فی غفلة من الزمن وعلى حین غفوة من الأمة.
ثم هو تاریخ واحد فی سلسلة مترابطة لا تنفصم, فتاریخ الشعب الفلسطینی وما یقع على أرضه موصول بتاریخ مصر وغیرها من البلاد العربیة ویترک حتًما بصماته علیها, ومن انزوى خلف أصبعه متواریًا ومحتجبًا عن مسئولیاته التاریخیة فإن فی التاریخ صفحات لأمثال هؤلاء, کما هو یحمل فی طیاته صفحات من نور لمن استعلى بقامته وتحمل مسئولیته.
هی ظلمة نعم قد غشت غزة الأبیة، ولکنها ظلمة فتحت سجلاً لتاریخ وجغرافیة تحتاج الأمة أن تتذکرها وتلتفت إلیها دومًا..فهو مسار عربی واحد ..ومصیر عربی مشترک.
وفی الأخیر نذکر أهلنا فی غزة بقول الله جل فی علاه:
* لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَکُمْ بَلْ هُوَ خَیْرٌ لَکُمْ لِکُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اکْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ*
( المقال منقول من موقع الانباء )
ب/ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS