تجارة السلاح الاسرائیلی
توطد العلاقات الأمنیة بین إسرائیل وبورما لتحقیق أهداف سیاسیة وعسکریة
هدأت العاصفة السیاسیة الداخلیة فى بورما ، لکن نتائجها ودروسها الخارجیة لا تزال ماثلة فى الأذهان. لیس فقط لأن الرهبان قادوا المظاهرات والاحتجاجات فى مسیرات جماعیة نادرة وتعرضوا لقمع على أیدی السلطات الأمنیة فى بلادهم ، بل لأن تطوراتها کشفت عن معلومات مذهلة بشأن دور بعض الأطراف فى تغذیة الصراعات والأزمات ، من خلال تأیید قوى على حساب أخرى ، أو بالتقاعس والتراخی فى الالتزام بالقرارات الدولیة. ویأتى الدور الإسرائیلى بقسماته الأمنیة والسیاسیة والاقتصادیة فى دعم نظام بورما الاستبدادی فى مقدمة الأدوار التى ساهمت فى تطویل أمد الأزمة بصورة غیر مباشرة ، حیث مددت تل أبیب خیوط تعاونها المفتوح مع میانمار منذ فترة طویلة ، متجاهلة الانتهاکات والتجاوزات التى یرتکبها النظام هناک ، وأثارت اشمئزاز العالم ، وتجاهلت المقاطعة الاقتصادیة التى فرضتها الولایات المتحدة والاتحاد الأوروبی والیابان وغیرهم على النظام البورمی .
لذلک فتحت العلاقات المتنامیة بین الطرفین الباب لاجتهادات متعددة حول دلالاتها وأهدافها. وطرحت تساؤلات وتکهنات وتخمینات مختلفة بشأن مغزى ترکیزها على البعد العسکری أکثر من الأبعاد الاقتصادیة والسیاسیة ، ودور السلاح الإسرائیلى فى تغذیة بعض التوترات ، وطبیعة الحسابات التى تتحکم فى توجهات إسرائیل ، خصوصا أن بعض وسائل الإعلام العبریة نوهت إلى جزئها الظاهر الخاص بالرغبة فى زیادة نطاق التحالفات والخبرات ، وغضت الطرف عن مکوناتها الخفیة ومرامیها الحالیة وتأثیراتها المستقبلیة على کثیر من المعادلات الإقلیمیة القریبة من الدولتین.
الحاصل أن العلاقات تبدو متشابکة وکل طرف لدیه أجندة مختلفة عن الآخر ، وبالتالی فالمصالح هى اللغة الوحیدة التى جمعت بینهما وأدت إلى تطویر أشکال التعاون ، الذى بدأ مع مطلع الخمسینیات من القرن الماضی فى مجالات تجاریة واقتصادیة ، حیث قام عدد من رجال الأعمال الإسرائیلیین بضخ استثمارات متباینة بهدف فتح آفاق جدیدة أمام الکیان الصهیونی الولیدة والتعرف على أسواق واعدة. وکان هذا بمثابة المدخل المناسب لتوطید العلاقات فى مجالات أخرى ، ظهرت تجلیاتها بوضوح فى المجال العسکری ، عندما قامت بعثة عسکریة إسرائیلیة بزیارة میانمار عام 1954 وتمکنت من توقیع صفقة لبیع طائرات من نوع"سبیتبییر" . وبعد أربعة أعوام تقریبا ، أی فى عام 1958 ، زار بورما موشیه دایان رئیس هیئة الأرکان برفقة شیمون بیریز مدیر عام وزارة الدفاع فى ذلک الوقت ، ما أکد أهمیة هذه الجولة فى المنظومة العسکریة الإسرائیلیة القادمة. وعلى هذا المستوى توالت الزیارات حتى توثقت العلاقات وأصبحت إسرائیل واحدة من أهم الدول التى تبیع سلاحها للنظام العسکرى الحاکم فى بورما .
فی هذا الاطار جرى توقیع سلسلة من الاتفاقیات البسیطة فى محتواها التقنی والعمیقة فى معناها الاستراتیجی ، لأنها تنطوی على إشارة واضحة بأن إسرائیل راغبة فى اختراق سوق السلاح الذى کانت تحتکره بضع دول آنذاک ، وأن بورما لن تکون أسیرة لتقدیرات بعض الدول القریبة منها والتى ترید أن تفرض علیها حساباتها السیاسیة. ففى عام 1989 مثلا وصلت سفینة محملة بالأسلحة الإسرائیلیة إلى بورما ، وبعد عامین تم توقیع اتفاق قضى بإرسال بنادق رشاشة من نوع"عوزی" ( یوزی ) لاستخدامها فى أعمال الحراسة. کما قدم جهاز المخابرات"الموساد"مساعداته بطرق مختلفة لنظیره البورمی . وفى عام 1997 وقعت شرکة"إلبیط" الإسرائیلیة للصناعات الجویة العسکریة اتفاقا مع جیش بورما لتطویر طائرات من نوع"إف 7" ، وباعت الدولة العبریة قنابل یتم توجیهها باللیزر. وفى هذا السیاق أوضح تقریر نشرته مجلة"جینز انتیلجنس ریفیو"البریطانیة ، أن شرکات الصناعات العسکریة الإسرائیلیة شارکت فى عملیات تطویر سفن حربیة.
صناعة عسکریة وسیاسیة
الواقع أن هذه الصناعات کبیرة ومتشعبة فى إسرائیل وتمثل نسبة تتراوح بین 20 - 25 % من الناتج القومی الذى بلغ حوالی 175 ملیار دولار العام الماضی . وتحرص کل الحکومات الإسرائیلیة على الوصول للأسواق البعیدة والاقتراب من بؤر التوترات ومناطق الصراعات فى الأقالیم المختلفة لتحقیق جملة من الأهداف الاقتصادیة والعسکریة والسیاسیة ، فى مقدمتها زیادة الصادرات وما تحمله من زیادة موازیة فى مصادر الدخل القومی وتنوعه ، ولاسیما أن هذه التجارة أصبحت رائجة فى ظل تعدد الأزمات ووصولها إلى مرحلة ضاریة من الاقتتال الأهلی ، الأمر الذى دفع الأطراف المنخرطة فى هذا الصراع أو ذاک للبحث عن مصادر لاستیراد السلاح بطرق مشروعة أو غیر مشروعة. وأثبتت تقاریر کثیرة أن إسرائیل ضالعة فى هذه التجارة ، التى أضحت مدخلا لدعم وترجیح کفة بعض الأطراف المتحاربة على حساب أخرى ، ومن ثم التحکم فى جزء معتبر من مفاصل الصراع والمشارکة فى رسم نتائجه. وظهرت ملامح هذا المعنى فى منطقة البحیرات العظمى بصفة خاصة ، عندما کانت شحنات السلاح الإسرائیلی تتدفق فى أواخر القرن الماضی لبعض فصائل المعارضة والحکومة فى آن واحد فى الکونغو ورواندا وبورندی ، بحیث تکون إسرائیل العنصر الوحید الکاسب فى کل الحالات. فإذا حسم الأمر لصالح القوات الحکومیة تکون قد ساهمت فى انتصاره والعکس صحیح. وعلى هذا المنوال أیضا جرت میاه کثیرة فى مناطق مختلفة. ویؤکد الخبیر العسکرى المصری ، حسام سویلم ، أن تقاریر أجهزة المخابرات أفادت فی کثیر من دول العالم أن إسرائیل کانت باستمرار وراء تزوید الکثیر من الحرکات الثوریة والانفصالیة بالسلاح فی المناطق التی تکتنفها الأزمات والصراعات المسلحة ، وممن تتفق توجهاتهم السیاسیة مع السیاسة الخارجیة لإسرائیل وتخدم تحقیق أهدافها ، مثل جیش لبنان الجنوبی ، وحزب الکتائب فی لبنان ، وقوات جارانج فی جنوب السودان ، وقوات الکونترا فی نیکاراجوا بالإضافة إلى دول معادیة للدول العربیة والإسلامیة ، وأثیوبیا فی مواجهة السودان ، وإریتریا فی مواجهة الیمن ، والسنغال فی مواجهة موریتانیا ، والهند فی مواجهة باکستان.
بالوکالة عن امیرکا
وفی بعض الأحیان کانت صفقات الأسلحة الإسرائیلیة تجری بالوکالة عن الولایات المتحدة ، ولخدمة أهدافها ، کانت قضیة صادرات الأسلحة الإسرائیلیة فی البدایة تثیر الحساسیة فی أوساط صانعی القرار السیاسی فی إسرائیل ، ویرجع السبب فی ذلک إلى خشیة الانتقاد العلنی لهذا الفرع الاقتصادی .وکانت المشکلة تکمن فی فتح أسواق التصدیر فی الستینیات وبدایة السبعینیات من القرن الماضی والتی کانت مغلقة فی وجه إسرائیل بسبب مقاطعتها سیاسیاً من جانب کثیر من دول العالم ، لذلک کانت معظم صادرات السلاح فی هذه الحقبة تلفها السریة والتکتم ، وتجری لأسباب سیاسیة أمنیة. ویقول اللواء سویلم فى دراسته"الصناعة العسکریة الإسرائیلیة"بعد أن بدأت عملیة السلام بین العرب وإسرائیل ، رفع الحرج عن الأخیرة فی مجال تصدیر السلاح ، وأصبحت تصدر الأسلحة والمعدات العسکریة علناً إلى الکثیر من دول العالم وتشترک فی معارض السلاح الدولیة التی تروج لبیع الأسلحة والمعدات الحربیة ، حتى وصل الأمر إلى تصدیر معدات سریة مفروض علیها الحظر من الولایات المتحدة إلى دول معادیة للأخیرة مثل: الصین التی حصلت على النظام الراداری"فالکون"وتکنولوجیا الصاروخ "باتریوت" المضاد للصواریخ ، برغم المعارضة الأمریکیة.
تجارة السلاح
وفی تقدیری فان الهدف من صادرات الأسلحة الإسرائیلیة إقامة علاقات مع خصوم الحکم القائم مثل الأحزاب المعارضة والحرکات والمنظمات الثوریة المناهضة لنظام الحکم ، ویکون هدف إسرائیل هو السعی لإسقاط النظام الحاکم ، واستبداله بنظام سیاسی آخر به یکون موالیاً لإسرائیل أو الولایات المتحدة ، وتعمل إسرائیل فی هذه الحالة بالوکالة عن أمریکا ، خصوصا إذا ما فرض الکونجرس الأمریکی قیوداً على الإدارة الأمریکیة فی تزوید بعض الدول والمنظمات بأسلحة أمریکیة.وربما تکون صفقات الأسلحة الإسرائیلیة لدولة ما ، وسیلة لکسب دعم هذه الدولة فی موقف سیاسی إقلیمی معین أو دولی ، کالتصویت فی الأمم المتحدة.
هذه السیاسة تحقق لإسرائیل هدفین إضافیین: الأول ، توسیع مناطق النفوذ والانفتاح على العالم وتغییر الصورة النمطیة المأخوذة عن إسرائیل باعتبارها مستوردا رئیسیا للسلاح الأمریکی. وقد أکدت بعض المعطیات أن صناعاتها العسکریة بلغت حدا عالیا من التقنیة ، بما یفیض عن حاجتها على ضوء استمرار تفوقها القتالی على کل الدول العربیة مجتمعة .وبالتالى یمکن استثمار هذا الفائض فى توسیع مناطق النفوذ. والهدف الثانی: الاعتراف بأنها واحدة من الدول الرئیسة فى سوق السلاح العالمیة. وفی ظل محدودیة مصادر الدخل القومی أصبح السلاح الإسرائیلى تجارة أکثر منه تلبیة لحاجة دفاعیة ، حتى لو تناقضت مع بعض القیم الدولیة وخالفت المواثیق التى توافق المجتمع على العمل بها.
بلغت قیمة صادرات السلاح والأنظمة الأمنیة الإسرائیلیة فی العام الماضى 4,4 ملیار دولار ویعتبر ذلک رقما قیاسیا ، بالمقارنة مع السنوات السابقة. وأوضح یوسی بن حنان رئیس قسم التصدیر الأمنی فی وزارة الأمن الإسرائیلیة ، فی لقاء مع صحیفة "معاریف" أن الصناعات الأمنیة فى إسرائیل تصدر حوالی
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS